خارج تعقلهم
غادر الانتظام والاعتياد وارتجل الخطو على عشواء.
الاتساع امتدّ إلى الأرجاء، حقل واسع مليء ببقع جرداء وكرات شوك أزرق ذي بياض على سيقان متجمعة، في غمرات. على مبعدة زيتونات لابأس بفتوتّها. كان لديه بعض الطعام وبعض التمر. جلس يأكل، بعد كل ما جابهه من المشاة، حيث لم يسبق له الذهاب، في بقعة نظيفة بعيدة عن البنايات تخط ارضها -كخطوط قلم رصاص متعرّجة- قوافل النمل القريبة، كأصابع.
المباني المحيطة بالحقل مرتفعة أكثر مما هو مألوف في المدينة التي لم تعد معقولة. فيها مقرّات لمؤسسات شكلية لا وزن لها، حتى (العسكرية) منها، وأخرى أكلها زحف البيع والشراء فلم يُبقِ حيّزا لغير التسوّق، وما من مال.
تعلم السكان رحالا ونساءً الآتون من مدن أخرى، وقرى، "البلجيكيون" كما يصفون بعضهم بعضا عند التلاسن، إلى جانب الحركيين سماسرة التاريخ الحديث، أن ينجرفوا مع مظاهر هي مقلّدة آتية أصلا من حضارات أخرى. لا يحتمل إلا هؤلاء الذين باعوا كل شيء وراكموا مالا لم يكن لهم من الأصل. اولئك لا يستطيعون احتمال شهرين من تأخر الراتب إلا بالاستدانة أو القروض.
الاتساع امتدّ إلى الأرجاء، وأفلت من نفسه حرفيا.
يرى المناظر بخيال رذاذي تتجمّع مشاهده كما لو أنه يبصرها في القشرة البصرية إنما بطبقتين. حلّق إلى الأعلى وانقبضت الأرض في الأسفل وصار يمكنه الرؤية من الجو، في أي اتجاه يريده، ويتقدّم ليتجلى انبساط الدحو على استقامة 180 درجة. يمكنه، برذاذ المشاهدة، أن يذهب إلى أي مكان. رأى ما كان موجودا قبلهم، وما لن يظل بعدهم لأن الماء -أو الرمل- لا يصلح لحجر ثقيل فعلا.
يطل من ارتفاع مائتي قدم على المشاغل القريبة، ويستدير بوجهه دورة كاملة: المسجد بساحاته الزائدة التي توحي بما توحي به.. معمار ورخام واقواس فقد الايمان منه. المنازل التي لم تُبَع بعد لتصبح مركزا تجاريا ما، آخر، سمسرة ما لرأسمال من عشرات الآلاف في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الأمن، أتى ليربح فقط على حساب الملايين المبعدين والمهمّشين. لا يوجد أصلا نصيب لهم.
ما من ثمن يقدمونه مقابل (المساعدات) الا التنازل والتبعية وتقديم البشر كموارد رخيصة.
السوق الجديد الذي لا يمكنه، حتى مع ازدحام المركبات، أن يلبي تكاليفه ونفقاته. لا بد من اجتذاب القرويين من قراهم لتبور أرضهم ومنازلهم القديمة، ويصبحوا نملا خاضعاً، فيما يتكامل سعي الشبيبة، شبيبة القرى، وشبيبة التلال في المستوطنات في..
لقد قرروا الأمر فعلا، والبقية مسرحية لامتصاص الموانع والتبرير قبل أن يجد الناس أنفسهم مرغمين، إلا أن تتنزل رحمة الله.
الدوار العجيب ذو التذكارات الوطنية المصطنعة، اهدتها بلدية ما في دولة متآمرة ما. مثلها تحف وتماثيل ومربعات وجمعيت وقوانين ومنهاج واعلام وتقنيات تخترق وتجمع البيانات...
إنّه يحفظ خريطة الكرة الأرضية ومواقع القارات ويستطيع التقريب ليصل، كجوجل ايرث، أي مدينة يريدها اذا عرف اماكنها التي فيها. لا ثابت فيها إلا للقوي المتسيّد على غيره من الناس، لكن السيّد الفعلي، بزلزلة أو تسونامي أو اعصار، يعيد التوازن في أي لحظة لهذا المختل.
ضاق المكان عليه حتى انفجر الضيق فاّتسع دون حد.
خرج من جمجمته والمكان، وعقله/ مزاجه/ خياله يشبه طبقات الجو، تتناقص في ضبابها وهو ترتفع إلى أن تجاور أقماراً صناعية، وترى الكليّ عن بعدٍ بوضوح.
إنها أيضاً مستويات المعلن والمخفي والتسافل فيهم، العصابات الحديثة، مافيات الاحتكار، خيانات العولمة والحداثة العصرية، أجهزة أمن خانعة لا تحمي بل تتسلط على الناس لصالح عدوها وكل ما هو خارجي من الشركات. لم يعد، منذ لم يعد له، إلا أن يلحظها: لكل مستوى في تكوينها الداخلي جزء مقابل فيه.
يبصر في اللحظة ذاتها منظرين: قوافل النمل، والأرض، وفي لا مكان كل الذي يدور.
هم يمضون، الناس، كعبيد اللحظة المنقادين، ليس بوسعهم التفرّد، بل النمل أفضل منهم بكثير. والقضاء المتقدّر سيحيط بهم إن طوعاً أو كرها، معهم هو، إنما له اختياره وطريقه.
كذلك تفتت شرنقة تعقّله. صار فهم نفسه، قانونه، وما يريد فعله. لم يعد يأبه بأحد مهما كان لون بزّته المدنية أو الرسمية، وتصنيف الرتبة أو المكانة. لم يعد يهتم بما قد يفعله أو فعله، أو يقوله وربما قاله ونسيه. ما يريدون هم رؤيته عائد لهم ولا يأبه لهم، كذلك من أمره أن يرى فيهم ما لا يريدونه أن يراه.
في كل وقت فعل ما توجّب عليه.
هبط تدريجيا ورويدا رويدا وحلّ في جسمه المتربّع على الأرض. قليل من كرات شوك أزرق على بعد أذرع، والشمس تضيء عينيه عند الانعكاس بلون واضح لا تصنيع فيه، مريح. تقلّص رذاذه البصري إلى أن استقر في رؤية التمرات التي توضحت في قبضته. لما مضغ، انحصر تركيزه الكلّي في الطعم.
هو خارج التعقل، تعقلهم، أو الجنون، جنونهم، ولن يكون مثلهم قط.
وسوم: العدد 1091