مُحَمَّدٌ

 

  • يا أم محمد صلي على النبي العدنان، وثقي بالله بأننا في هذه المرة سوف نذهب لاختصاصي أطفال الأنابيب، وستفلح محاولتنا الحادية عشرة، وسيرزقنا الله نصف دزينة من الأولاد؛ قال الرجل الغزي لزوجته متفائلاً، وهو يربت على كتفها اليسرى.
  • فردت بنزق شديد، وهي ترفع يده عن كتفها: ثم إنك تسميه محمداً، ولمَّا يُزرعْ في أنبوب ولا حوض زراعي؟ ثم إنك تتفاءل بستة من الأولاد ولمَّا يأتِ الأول، فما هذا التفاؤل العجيب الباهت؟!
  • وضع الزوج يده مرة أخرى، ولكنْ على كتفها اليمنى: وبسم بسمة عريضة؛ كأن عرضها السماوات والأرضين: تفاءلوا بالخير تجدوه، وهيَّا أعدي فطورا خفيفاً كي نستعجل في الذهاب إلى الطبيب محي الدين.

*******
كانت حركة النَّاس إلى أعمالهم في الصَّباح الباكر دؤوبة، بينما كان الزَّوج يحاول إيناس زوجته وهي شاردة الذهن؛ وهما يستقلان حافلة عامَّة في طريقهم إلى الطبيب اختصاصي النِّسائية. ولم يفلح في ثنيها عن التشاؤم، وربما يكون معها جزء من حق فقد مضت عشر محاولات فاشلة ... ثم صار يحدثها عن النَّملة الدؤوب وهي تجرُّ ضعف حجمها ووزنها بمرات مما ستخبئه مؤونة للشتاء، وتتعثر عشرات المرات، وقد تنقلب على ظهرها ... ولكنها لا تيأس أبداً. وفجأة كبح سائق الحافلة سرعتها، فقد كانت قُطيطة تقطع الشارع بشكل جنوني؛ فقال لزوجه: هل تعرفين لمَ تعرضت القطة لما يمكن أن يكون حادث دهس لولا رحمة الله ثم حنكة هذا السائق؟ فنظرت إليه في شَدَهٍ مسَّائلةً: ولمَ؟ فردَّ ضاحكاً وهو يريد أن يسرِّي عنها: لأنها لم تستأذن أمها في هذا المشوار ... فاضُّطرت الزوجة المتجهمة إلى إفراج شفتيها السمراوين عن لمىً جميل؛ قائلةً: نكتة غير مضحكة، ولكني سأقبلها على مضض، لأننا في حافلة عامة ولا يحسن الجدل العقيم الذي يشبه عقمنا، ها هنا، وبسمت بسمة عرضها 1/1000000 من السماء والأرضين، فتبسم لها مليون ضعفها؛ وهو يُمَسِّك بيدها، ويعصُّ عليها حنُوَّاً؛ وهما يترجَّلان من الحافلة تجاه عيادة الطبيب؟

*******

انطلقت الزغاريد في مولد "محمد"؛ فهو الاسم الذي ظلَّ يحلم به أبو محمد أحد عشر سنة، ولما سُمح له أن يدخل إلى غرفة الأم في قسم الولادة طبع على جبينها ست قبلات؛ فتضايقت من شبقيَّته؛ سيما وأن لفيفاً من الممرضات من ملائك الرحمة البيض بلباسهن وقلوبهن، كنَّ يتحلقن حولهما. وسألته الزَّوج المقبَّلة عن كُنْه ست قبلات سخينات؟ فقال: بعدد ما سيرزقنا الله من أولاد بحوله وقوته ورحمته ولطفه؛ فانشدهت كلُّ الملائكة البيض، إلا واحدة أطلقت ست زغاريد؛ فسألتها الزوج المروْعة عن سرِّ العدد ستة؟ فقالت وهي تطلق السابعة: عن محمد ... وعن إخوته وأخواته الخمس الجائين في الطريق؛ وإذا أعجبتك خدمتنا فستكون الولادات الخمس القادمة في مشفانا، فاستبشر الرجل بهذه الممرضة المتفائلة، وتورَّد خدَّا الأم المتمخِّضة خجلاً، ثم ناولوهما الطفل، وبدأ الأب بالأذان والإقامة في أذنيه.

*******

....وخلال أقل من تسع سنوات، كان البيت قد امتلأ عليهما بستة أطفال، وعاشوا معا تحت سقف من التفاؤل والمحبة والشكر في غزة العزة.

*******

ولما بدأت الحرب الغشَّامة اليهودية على أهل غزة في شهر أكتوبر من سنة 2023، كان حظ ثمانيتهم أن يظعنوا ثمانية مرات بحثاً عن متر مربع آمن؛ ولكنْ .... هيهات؛ فكل سنتيمتر مربع في غزة يتعرض للقصف الوحشي النازي منذ ما يزيد عن عشرة شهور حمراء بربرية، في بلد يعوز الماء والغذاء والدواء، ولو اسطاع الصهاينة الملاعين حفدة القردة والخنازير قطع الهواء عنهم؛ لما قصروا!

كان الأب خلال تلكمُ الشهور الكبيسة بالموت والرعب يتنقل بائعاً متجولاً من مكان لآخر، ويرسل لهم حصيلة ما يرمُّ أبدانهم من قوتِ يوم وليلة؛ فالنَّاس تعيش مسغبة شديدة نتيجة الحصار اليهودي الخانق على غزة وأهليها.

وذات ليلة غير حالكة، ولكنها شديدة اللَّهب الصَّيفي، وما يزيد من حرورها رؤية الناس للصَّواريخ وهي تتنزَّه في السَّماء الغزَّاويَّة ذات اليمين وذات الشمال .... في هذه الليلة سقط صاروخ على بيت أطفال الأنابيب وأمهم.

هُرع الجيران لانتشال الشهداء والجرحى من تحت أنقاض الكشوح اليهودية المستعرة، وهذا موقف ومشهد اعتاده سكان غزة منذ الحرب الأولى الأثيمة المجرمة على غزة سنة 2009 ؛ فاستطاعوا بعد جهد جهيد من البحث والتنقيب التقاط وتجميع أشلاء خمسة من الأطفال وأمهم، إلا أنهم لم يعثروا البتَّة على سادسهم، وهو الصغير الرضيع ... وما ضرَّه أن يظل شهيد الأنقاض، ويُضاف على إلى قائمة أكثر من عشرة آلاف شهيد لم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشالهم من تحت أنقاض الصهيونية الدموية ... ولا غرو في ذلك فقد تكون الأرض الغزيَّة المباركة تَمَسَّك بهم؛ فهي تحبهم كما هم يحبونها!!

أقيمت لستتهم جِنازة موحدة مع بعض الجيران الذين قضوا طراً بالصاروخ المكاشح ذاته، ثم دُفنوا في مقبرة جماعية، فما عادت أرض غزة تتسع لأكثر من أربعين ألف شهيد؛ فبات الغزيُّون يدفنون أُحيباب قلوبهم في مقابر جماعية!!!

أما الأب المتفائل المفجوع فقد دأب أياماً وليالي مسهَّدة؛ يزور بها فلذات الأكباد في قبرهم الموحد، ويدعو الله أن يغفر لهم، ويتعجب كيف خرجوا من أنابيب متعددة، ثم عادوا ليقبروا في أنبوبة واحدة؟!

وطفق الرجل المتوجِّد يتلو من سورة الشورى: " لِّلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ (49) أَوۡ يُزَوِّجُهُمۡ ذُكۡرَانٗا وَإِنَٰثٗاۖ وَيَجۡعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًاۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٞ قَدِيرٞ (50) " ، ثم يردد: رجعت عقيماً ..... رجعت عقيماً............

وظل الرجل المتواجد يهيم على وجهه في الطرقات وهو يتلو آيات الشورى؛ فلقيه إمام مسجد الحيِّ شبه المتهدم، فأخذ بيده يواسيه؛ وهو يردِّد على مسمعه:

  • ألم تكُ أكثر واحد منا متفائلاً؟
  • بلى ... بلى.....
  • وقد رزقك الله الذريَّة بمعجزات؛ بعد لأي؟؟
  • بلى ... بلى...
  • وكنت تشحذ زوجك دوما بالتفاؤل حتى حباكمُ الله الذُّريَّة الطيِّبة؟؟؟
  • بلى ... ولكنهم مضوا!
  • أولادك وزوجك كانوا مجرد عارية أعارك الله إياها، فلمَّا حلَّ ميعاد إرجاع العارية نزل صاروخ يهودي حقُود فأخذهم إلى صاحب الأعطية.
  • فبكى الرجل المتفجع حتى بلَّ حِجر الشيخ ذي اللحية البيضاء المخضَّبة، ثم أخذ بيده إلى بيته شبه المنهدم، وأكلا معا شطيرتي خبز؛ دون إدام، وحمدا الله على النعم والنقم، ثم أذن العصر فانطلقا إلى جماعة العصر؛ حيث يفترش الناس الأنقاض، ويصلون عليها، وبجانبهم ترقد نصف مئذنة مهشمة الرأس والجسم؛ ثم المؤذن يقيم الصلاة بلا مكبرات صوت، إذ لا كهرباء ... ولا ماء .... ولا غذاء .... ولا أطفال أنابيب بعيد هذا اليوم المتشائم... ولكنَّ غزة ليست عقيماً؛ فستنجب الأبطال الميامين الذين سيحررون الأقصى المبارك من حقد اليهود؛ قتلة الأنبياء!!!!

وسوم: العدد 1092