ويؤثرون على جراحهم
محمد الخليلي
اوعكْ تتحرك – لاتطلع – لاتنزل – لاتشرب – لاتاكل – لا... لا ... لا ..... لا
لاآت لاتكاد تنفد تخرج من في أم طلال في الربع ساعة التي كنت أزور ابنها في المشفى وهو يتلقى العلاج من شظية أصابته في بلده درعا .
كنت كثيراً ماأحمل على أم طلال وأعنفها بقولي : دعي الشاب يعيش ياأم طلال فقد ناهز الخامسة عشرة وقد حَقَّ عليك أن تفطيمه من لاآتك وحُقَّ له أن يتنفس بعض الحرية . أولستم أنتم الشعب السوري الذي انتفض على طاغيته من أجل الحرية ؟ فلمَ تقسين على ابنك بسلبه حرية التفكير والتعبير ؟!
أطرقت أم طلال ملياً وتنفست الصعداء ، ثم حدقت بي وعيونها المغرورقة دموعاً تكاد تنطق عن لسانها لتحكي مأساة غريبة عجيبة ، وبعد أن فاهت بتمتمة لم أفهم منها كنه حرف واحد أغلقت فاها مجدداً ثم سرحت في عالم من التأمل الممزوج دموعاً وأردفت : بعدين ... بعدين . حاولت أن أحادثها ولكنها كانت قد دخلت في عالم آخر وهي تردد : بعدين بعدين ، فما كان مني إلا أن انسللت لواذاً - مع نفسي - من المجلس راجعاً أدراجي من حيث أتيت .
ولجت غرفة الطبيب المسؤول عن العناية بالجرحى وقصصت عليه القصص فتبسم ضاحكاً وقال أنا أعرف كنه سريرة أم طلال ولكن مادامت لم تردَّ أن تفصح لك عن مكنوناتها فأعتبر نفسي غير مخوَّل بأن أفشي لك أسرارها . ماعليك إلا أن تصبر أياماً أو ربَّما أسابيع وربما شهوراً لكي تبني معها العلاقة الأخوية الخاصة وقد تفضي لك بسرها أو تستأثر به .
جنَّ جنوني عندما سمعت هذه القالة من مسؤول المستشفى ؛ إذ لم يصعب عليَّ مريض واحد قبلها من أن أنتزع منه أسراره وأسبر أغواره وذلك من اللقاء الأول ، وصرخت في وجهه قائلاً : وهل هي أسرار عسكرية ؟ فما كان من ردِّ من الطبيب – وكعادته – إلا أن تبسَّم بسمةً صفراء وأشاح بوجهه عني ؛ فهو لايردّ على أيِّ مهاتر .
خرجت من غرفته وأنا أتحدث مع نفسي بعدين .... بعدين .... شو هي أسرار عسكرية؟ ونفسي تقول لشخصي ومالك ومال أسرار أم طلال ؟ يعني بدك تحصل على جائزة نوبل من وراها ؟ ولا بدك تألف قصص ألف ليلة وليلة ؟ ولا ... ولا .. ولا ....
شاهدني أحد الممرضين وأنا أنزل الدرج على غير عادتي ، فهم يعرفوني أنني أستعمل المصعد الكهربائي القديم الذي كثيرا مايتعطل أثناء الصعود أو النزول ويقولون لي لماذا لاتستعمل الدرج للسرعة فأجيب أنا كبرت سني وأنت الشبابَ انزلوا على أقدامكم ودعوا المصعد الذي صنع من عهد الحرب العالمية الأولى لأمثالي من العجزة . ولما لم يسمع جوابا مني أمسك بكتفي مربتا مشدوها : ماالذي حصل يادكتور ؟ وهم طبعا يسمونني دكتور رغم أنني لم أمسك سماعة الطبيب يوما . يعني من باب الاحترام باعتباري أتردد على المرضى لتفقد حالتهم النفسية وعيادتهم وتلمس حاجاتهم ، فأحسست لحظتها أن كهرباء قد سرت في جسمي وشعرت أني كنت أنزل الدرج على غير هدى وكنت قد وصلت الطابق الأخير وأنا أظن أنني في الثالث فقلت له أهلا محمد ، فقال هل كنت مع الجنِّ تحادثهم فقلت له بعدين بعدين وأكملت طريقي نحو البهو الأرضي ووجدت نفسي مستلقياً على الأريكة الكبيرة شروداً لاأسمع مايدور حولي أو لعلِّي اسمع ولكنني لاأعي مايدور حولي من لغط واحاديث تلقى هنا وهناك . جاءني الطبيب المناوب بعد قليل ومعه استمارة تعبئة إدخال مريض للمشفى وبدأ يسألني عن اسمي والمعلومات الشخصية التي يسأل عنها المريض وأنا ذاهل ولكني أعطيه كامل المعلومات الصحيحة وفجأة سألته من أنت ؟ قال أنا الدكتور محمود ، ألا تعرفني ؟ قلت بلى ، ولكن لم تستجوبني أأنت طبيب أم ضابط استخبارات ؟ فتبسم ضاحكاً من قولي وأتبعها بابتسامة صفراء كالعادة وقال أكمل إجاباتك وإلا أمرت المساعدين بترفيقك للغرفة . قلت وأية غرفة ؟ قال : غرفتك التي حجزناها لك ، قلت : حجزتم لي غرفة ! قال نعم في طابق النساء . قلت : وكيف أسكن في طابق النساء ؟ قال أنت رجل عجوز جاوزت الخمسين ولا خوف عليهنَّ منك ! قلت : وما حاجتي بغرفة لديكم وأنا امتلك بيتاً ؟ قال أنت مريض وبحاجة للراحة ، ثم إنني حجزت لك غرفة محاذية لغرفة أم طلال حتى تسبر أغوارها . تمتمت في نفسي أم طلال أم طلال ... طيب بعدين ... أم طلال بعدين ... بعدين فقاطعني : بل الآن ألا ترى أنك مرهق عصبياً وتحتاج إلى إبرة مهدىء تروق أعصابك فتسمَّرت عيناي به وحرت جواباً ولم أسطع أن أنبس ببنت شفة فجعلت حاجباي يرددان بإيماءة أي نعم . وخلال ثوانٍ كان الممرضون قد أضجعوني على السرير النقال الخاص بالمرضى وبدأوا بحملي والسريرَ على الدرج لأن المصعد غير مصمم لاستيعاب السرير ، فتساءلت : لمَ لم تضعوني على كرسيٍ نقَّال ؟ وساعتها أستطيع والكرسي ظهور المصعد !
أدخلوني الغرفة كأيِّ جريح وأضجعوني على سرير المرضى ووضعوا لي المغذي عن طريق الوريد وما هي إلا دقائق معدودات حتى غططت في نوم عميقٍ لم أفق منه إلا على صوت أنين مبحوحٍ وترتيلات زجل بدوية ومناجاة للواحد الأحد من صوت نسائي كهل ..... أصخت السمع فعلمت أنه يأتي عبر الحائط من الغرفة المجاورة النسائية ... صوت رخيم وأنغام فلاحية رنيمة تقطعها تأوهات وآخات .... أصبح جسمي كله آذاناً فلم تعد أذناي تسمعان فحسب فأنا أريد أن أعرف صاحبة هذه الألحان الشجية ... لم أدر وأنا أجدني أسبح في بحر من الدموع وطفقت أرتجل شعراً خليلياً حزيناً وانتحبت به إلى أن علا نشيجي ولم أفق من غيوبة الشعر الممزوج بكاءً إلا عندما سمعت قرع الباب. تسمَّرت عيناي وتخشبت رجلاي وصحت بأعلى صوتي : من الطارق ؟ فإذا صوت نسائي مخنوق يقول : افتح ياجبان هل أنت رجل أم حرمة ؟ كيف تسمح إدارة المشفى بسكن رجل في سرادق الحريم ؟!؟ إن كنت امرأة فافتحي لنا ، وإن كنت رجلا اخرج حتى أهشم وجهك أيها الصفيق ... يخرب بيتك تبكي مثل النساء .. حتى لو كنت جريحاً .... الرجال لايبكون أيها الجبان ... وبدأ الباب يهتز من شدة الضرب عليه فتذكرت يوم تأتي قوات أمن الدولة لاعتقال شخص ما حيث يشتكي الباب ساعتئذ من شدة الضرب ثم الخلع .... رخَّمت صوتي ورفّعته ووضعت منديلاً على فمي كي أخفي خشونة صوتي وتكلمت بخضوع مزيف وتنحنحت ثم قلت : أنا أم علي جريحة جديدة من درعا ... فضحكت المرأة ضحكة رجت لها أرجاء المشفى مرددة أم علي ... أم علي ! أم علي ياهذه لاتعول بكاءً .. إذاً فلتغيري اسمك ولندعوك أم سامر فهذا الاسم يناسب بكاءك المشين وأتبعت ذلكم الكلمات التي نزلت على نفسي كالرصاص المتدارِك بقهقهة مريعة .... وماإصابتك ياأم سامر ؟ قلت جرح في الإصبع ... لم تمهلني حتى ألفظ حاء الكلمة حتى سبقتني بكلمة إخس على إصبع مجروح تنتحبين ياهذه ؟! اسمعي ياحرمة نحن نساؤنا في درعا لايبكين حتى لو قطـِّعت أطرافهنَّ وأنا أؤكد لك أنك دخيلة على درعا فقد تكونين سكنتها لماماً . نحن الذين فجَّرن الثورة السورية المباركة ولا يجوز لدرعاوية أصيلة أن تجهش ببكاء ... ول ول عليكِ ... أحسست ساعتئذ أن كنه أمري بدأ بالانكشاف فقلت لها : أي نعم أنا أسكن درعا ولكنني من حلب أصلا فقاطعتني : ها ها ها حلب ....... حلب تأخرتم بولوج الثورة ستة عشر شهراً . .. إذاً يحق لكم نساءَ حلب بل ورجالَها أن تبكوا دماً لادمعاً على تلكئكم وممالئتكم للنظام البعثي المجرم الطائفي القاتل الأسدي ال.... وطفقت تنعته بأسوأ الألقاب حتى قلت في نفسي ليتها سكتت ...... ولما أن هدأت ثورتها وشفت غليلها من سب النظام الدموي في سوريا المغتصبَة قالت : اسمعي أيتها الحلبية اخرجي إلينا لنتعرف عليك ، فقلت لاأستطيع بسبب إصبعي فتمتمت بصوت مسموع إصبعي إصبعي يابنت الحلال أنا يدي مليئة بالشظايا من شهور وأنام وأصحو على الألم ولم أعالجها بعدُ ، فقاطعتها أنا هذه المرة قائلاً فمن أنت بالله عليك ؟ فقالت أم طلال لقد تغير الصوت من الذي تكلم الآن لتوه ؟ هل معك مرافق وكيف يدخلونه بهو النساء ..... تباً لإدارة المستشفى والدكتور أبو أنس ... فتنبهت لحظتها أن المنديل الذي اتخذته لترخيم صوتي ولتخضيع نبرتي كان سقط سهوا ولم أدر به لشدة هول ماأسمع فأرجعته ولم أنبس ببنت شفة ثم تابعتْ : أنا أم طلال وقد جئت لعمان من درعا مع وحيدي طلال فقد أصبنا بشظايا قبل شهر نتيجة سقوط برميل أسدي متفجر على بيتنا القروي المتواضع وقد كانوا يستهدفون أبطالا من الجيش الحر ولكن البرميل المجنون أخطأهم وسقط وسط فناء البيت فأصبت ووحيدي طلال واستشهد زوجي وابنتان من أولادي ونجا منهم منكان خارج البيت في المدرسة أو في شغل واصيب أيضا بعض جيراننا بشظايا أيضاً
قلت لها : ولم لمْ تعاجي جروحك ياأم طلال بعدُ ؟
قالت : لقد آليتُ على نفسي أن أكتمَ جراحي حتى يشفي حبيبي طلال ولكن الجراح التي أ ُذهل عنها في نهاري بانشغالي بمتابعة استشفاء ولدي ترغمني ليلاً على التأوه وبثِّ آلامي بشعرٍ أنظمه أو أحفظه ، ولكن بعد أن يخلد حبيبي طلال في نوم هادىء لكي لاأزعج أحلامه .
ثم قالت ألا تفتحين الباب لكي نتعرف على إصبعك المجروح ؟ فصرختُ آخ ياإصبعي ، فأردفت أم طلال ول .... عليك ول ....... ياحلبية ...... سوريا ضاعت وما قلنا آخ وأنتِ تصرخين في الدقيقة مرتين آخ ياإصبعي!!!!!