الخيوط الخفية
جمال المعاند -إسبانيا
- تصارع خواطره كل احتمالٍ ؛ جاء في طي رسالة قصيرة، وصلته عبر هاتفه المحمول تقول: " الجَد ينتظرك على العشاء" .
وكلما استجوب لمعة فكر، أو ومضة فحوى، تلفظ لسانه بعبارة : "تباً له من ثعلب هرم " .
لقد جلس إلى ذلك العجوز مراراً، وقلما ظفر بثنائه، فعادة ما يمهر أفكاره المبدعة، بملاحظات تمتص فورة الحماسة، وتبقي ثفل الواجب .
أزف الموعد، ودلف عبر بوابة القصر، فمع الحراسة الكثيفة، لفتت نظره أشجار الحديقة، التي اصطفت كجندٍ، لا يمكن أن تتسلل منها نظرة، أو تهرب من خلالها همسة، أما داخل المبنى، فالرهبة مسيطرة على المكان؛ لكثرة ما زرع فيه من عيون وآذان، يكاد يجزم في نفسه أن كل الفعاليات على وجه البسيطة، إن أخطأها بصر، سيدركها سمع من هنا .
استقبله رئيس مكتب الجَد، وبينما كان يحتسي القهوة، انهمك رئيس المكتب بتلخيص ما حوى الملف الذي كان يحمله، بعبارات اختزالية، وتعجب من أوراق تزيد على المائة، تكتب في ورقة واحدة، ثم دخلا إلى حيث الجَد، كان العجوز ينصت كمؤمن يسمع موعظة تأخذ بمجامع قلبه، فلم ينبس ببنت شفة، حتى أتى الموظف على كل ما في الصفحة، واكتفى بعد الانتهاء من القراءة، بقوله : من لا يسمع طبول الحرب العالمية الثالثة أصم، مشكلتكم أنتم الأوربيين، عقولكم تؤمن بالتجزئة، وبعض الأمور تحتاج لاستئصال .
أجابه :
إن تفتيت أي كتلة إلى أجزاء، هي الطريقة المثلى لإعادة تصنيعها من جديد .
ضحك العجوز وقال : ليس كل ما في الحياة جماد . نجحنا مع الكل، أفرغنا معتقداتهم من مضامينها، وحرفنا مسارات سلوكهم، إلا مهمتنا القديمة والحديثة، حاولنا ومن قبلنا، الفتك بذلك الدين وأهله، فما أجدى مكر، ولا نفعت حيلة، شطرنا بيضة بلدانهم، سلطنا عليهم من لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة، من ثم يُورق أصلهم ويثمر من جديد، وكل ما نفعله يجير في خانة الخبرة التي تكسبهم مناعة، لا أريد لتجربتنا الحالية نفس المصير .
أشكر لك حضورك، خذ هذه الورقة، لعرضها على مهندسي الفكر، فهي وصفة، تحافظ على صحة أوقات المجتمعين من اعتلال الضجر .
بعد تناول العشاء دلف الجميع إلى حجرة، أضواؤها خافتة، كانوا بضعة أشخاص، تبدأ اجتماعاتهم بالوقوف، ووضع اليد اليسرى على الصدر ناحية القلب، وترديد عبارة " من العديد واحد" .
وتحدث العجوز بقوله: تعلمون أننا نجحنا في صبغ معظم سكان المعمورة بأفكارنا، عدا أناس، لديهم رواسب، أتعبتنا منذ القدم، ومعالجة تلكم البقايا، تكاد تنهك قوتنا الآن، وبعد لأي وبحث، أدركنا أن ثمة بقعة من الأرض، هي مظنة الرفض لأفكارنا، فمنها يخرج أغلب الذين يهدمون لما نخط ونرسم، وعلى صخرة تصميمها تتحطم أمواج رغباتنا، وكما تعلمون فأن هذه هي الأسباب الموضوعية التي أدت لاختيارها، فهي العقبة الكأداء أمام تطلعاتنا .
ولقاؤنا الليلة؛ يهدف إلى قراءة الإنجازات، وتثمين النتائج، والعمل على تحقيق التخطيط .
وأشار إليه، أخرج الورقة وقرأَ :
لقد أحكمنا التصور منذ البداية، فاستملنا صاحب الدببة، المفتون بقوته الغاشمة، القابع في ملاءة الضباب، وأملناه في الحصول على موطئ قدم، في تلك المنطقة، فهي ترفل بأشعة الدفء، و تفيض بالمصالح .
وشددنا أزره بأصحاب التنين، وهم فرط عصي على العد، مولعون بتقليد كل بضاعة رائجة، لأن كثرتهم فرضت عليهم حاجة، إطعام ملايين الأفواه الفاغرة، وذلك همهم، فلا وقت لديهم لإعمال الفكر، فمجرد الحديث معهم عن الكساد، يعني لهم دق ناقوس الخطر .
بيد أن تلك المساندة قليلاً ما تفي بالحاجة العملية، فبحثنا عن مشاركة تامة، فما وجدنا أفضل من وشيجة الاعتقاد، وعثرنا على ضالتنا، في قومٍ الأحقاد سجية لهم، و الثأر مطلب يصبحون ويمسون عليه، بل يحرصون على تغذيته لأطفالهم مع اللبن، ومنذ القدم لا تعني لهم تلك المنطقة، إلا ذكرى تنغص عليهم برد العيش، وغضضنا الطرف عن تصرفاتهم، فاندفعوا زرافات ووحدانا، يسوقهم حقد دفين .
ولا يخفى عليكم أن أي نزاع مكلف مادياً، فلجأنا لأناس أثروا بلا تعب، كنا قد فرضنا عليهم صداقتنا منذ توليهم زمام بلدانهم، فتصدقوا مكرهين سراً على صبينا .
هذه السهام أصابت كبد الهدف، وبقي التلطيف، ونحن نفعله لغايات، أولها كسب الوقت ، وبث الأمل الكاذب، وليستمر نزف الضحايا، لأطول مدة ممكنة، فوقع اختيارنا على صاحب العقاب الأصلع، والعقاب رمز له، يحمل في إحدى قدميه سهاماً، وفي الأخرى غصن زيتون، ومعه من يشابهونه شكلاً ومضموناً، وهذا موجز ما تم وسوف يستمر في قابل الأيام، و ما طاش لنا سهم .
هنا قاطع الجميع دخول رئيس مكتب العجوز ليخبرهم، على خبر اختزالي قال فيه:
" صبينا شطط في لعبه، وأثار نقمة المتفرجين في كل مكان " .
تحدث أحد الحضور قائلاً :
ما اقترفه صبينا، ليس خارجاً عن التوقع، فهو غير حصيف، وفعله يتسق مع تنبؤات الدراسات المستقبلية السابقة، فلمَ سمحنا له بامتلاك هذه الأسلحة أصلاً، أليس لاستخدامها عند الحاجة؟ .
وما الاستنكار الحاصل من قبل العالم، وسماح رجالنا بنقله، إلا جزء من التنفيس نمتص به المشاعر الإنسانية .
تداخل حاضر أخر: لكن القتل استحر بأهل هذه المنطقة، بما لا شبيه له، إلا في الحروب العالمية!، والخشية من أن ينكشف أننا خلف كل ذلك .
فأجاب : أليس ما يحدث يدنينا من هدفنا إذن، فهو المطلوب .
تحدث العجوز: مطلوب ويقربنا من هدف الأجداد، إذا سلم من عيون النقد، ولم يتخط حواجز العقل، لا تنسوا يا سادة أنا أقلية مختارة، فلا نرمى من بني البشر عن قوس واحدة .