الإعلام الفضائي
هشام جلال أبو سعدة
الثانية ظهرًا، القاعة السداسية العملاقة التي تحتل نصف الطابق السبعون من الناطحة الرابعة العملاقة ذات الطوابق المائتين في جنوب شرق البلد. سِمامة العبيط مُجتمعًا بأعضاء الغرفة من العاملين في مجال الإعلام الفضائي في لقاءٍ على هامش مؤتمر سنوي احتفالًا بمرور مائة وعشرون عامًا على تأسيسها. يتقدمهم الرئيس الشرفي للغرفة مدارات اللوطي. رجلٌ آفاق. لا يؤمن بفكر تتابع الأجيال باقٍ مهما تغيرت الظروف والأحوال والرجال والعيال. استفاد من جراحات النانو بيوتي فطال عمره، تعدى السبعون، ملئت أصباغ كالحة وجهه، نتف شاربه باين، لمعان لحيته بادٍ، مع بثورٍ وحفرٍ عميقة، فبشرة الوجه تلفانة من الغليان الداخلي، مع صوت شاحب ممل غميق غطيس غليظٌ آتٍ من أعماق العصر البائد. صوته ينُم عن دهاء وغباء، كلامه فاضي فارغ، لا تحتمل الاستماع لصوته أكثر من لحظة لحَتَّى تذهب لأقرب دورة مياه للترجيع. مداهن على الملأ، لا يخجل ولا يستحي، دمه بارد، لا يكِل ولا يمل من ترديده للشعارات.
همَّه ألّا يترك مكانه، فمنذ عرفته قنوات التلفزة الأرضية وما تلاها من فضائياتٍ فكونيات، يُكرر نفس الكلام إنما في سياقاتٍ مُختلفة. ثابت على مبدأ أنه الفاهم الواعي العارف ببواطن الأمور، المُنّظِّر والمنظم والريادي والاطرائي.
معه لفيفٌ من رجالِ مالٍ وأعمالٍ من أصحابِ قنواتٍ إعلاميةٍ فضائية، منها صفدي لصاحبتها رفيقة صفدي، النايل السياحية لصاحبتيها الأختين الرابية والندى النايل، قناة الياقوت العلمية لصاحبها مقال الياقوت، قناة بلبوص الرياضية لأصحبها أنور وراجي وصفية بلبوص، قناة النبأ الإخبارية لصاحبها مكتوب نبأ معهم قناة البرواز للمنوعات لصاحبها غريب برواز، ثم أتت السيدة راندا نور ليست بصفتها مُمثلة للعاملين في مجال شبكة المعلوماتية العنكبوتية وليس زوجة للفحل أنور بلبوص الثانية إنما باعتبارها من المساهمات في قناة بلبوص الرياضية ذات الثلاث تفريعات فضائية والرابعة مدونة على شبكة المعلوماتية العنكبوتية.
بطبيعة المرحلة يحتل سِمامة مكانةً مرموقة في داخل الغرفة نظرًا لقدرته المالية الفائقة، فالغُرفة مدينة له بحوالي أكثر من تلريون فلوس. لذلك فكلمته مسموعة على الرغم من شهادة الكُلّ بمحدودية ذكاءه، فلم يستطع عبور الاختبارات المؤهلة لدخول الجامعة، ليُصبح ذا كلمة مسموعة بالمال والاقتراب من السلطة والنفوذ ليتخذ موقعًا جعله من واضعي السياسات. فعلى الرغم من عدم قدرته على التحصيل العلمي إلّا أنه يُصر على كتابة خُطبه بنفسه في المحافل الدولية والعامة مع إصراره على إلقاء القفشات الفجّة فيضطر الحضور للضحك للمجاملة في حين لا يضحك عليها هو أبدًا لغباوته الزائدة.
فجٌّ في التعامل مع الإعلام، مكروهٌ.. ما باليد حيلة؛ صاحبُ مالٍ وعزوة ونفوذ. يُصر حَتَّى في وجود مدارات اللوطي الرجل القوي في الغرفة على ترأس الجلسات وإدارتها بفجاجة دون حرفية، لا يُعطي أيَّ أحدٍ فرصة للكلام فهو مُستأثرٌ بالحديث ومَنْ يعترض لا يلقى إلّا كلامًا عنيفًا وسخريةً بالغة غيرَّ ناسيًا أنه كان صبيًا لعالمة (راقصة).
يأتي الأخ الفاضل مدارات مُرَّحبًا مهللًا يُعلمهم بأنه بلغه من مصدرٍ موثوقٍ بوجود اتجاه قوي لعمل نقابة مهنية للإعلاميين يتزعمها أستاذٌ في الجامعة اسمه .. لحظة لحظة، لا يتذكر، لعود يقرأ من ورقة صغيرة في يده:
- الأبريق.. الأفريق.
ليُصحح له بلبوص الاسم:
- الفقير معاليك.. اسمه الفقير وشهرته الشيخ البابا، زميلنا في الجامعة.
مُداعبًا بفجاجة يُحسد عليها، ضاحكًا بعلو صوته، دمه يُلطش:
- بأه ده اسم ده يا بلبوص.. فيه حد اسمه الشيخ الفقير بابا.
- يعني هو اسم سِمامة العبيط ده اسم ولا حَتَّى بلبوص ولا برواز، اسمه على الأقل له معنى، الرفيق الأب، جك داهية تاخدك على غفلة.
تُحدث راندا نفسها بصوتٍ خافتٍ غير مسموعٍ، مُباغتها سِمامة بغلٍ:
- مدام راندا.. بتقولي حاجة؟
- أبدًا يا فندم، سلامتك.
ضاحكة، مُتابعًا بغباوة يُغّمْغِّم في داخله، يَقطُّر سمًا:
- باحسب.. معاودًا بعبط بادٍ: إذا صح ما بلغني سيكون للنقابة تأثير قوي على نفوذنا، ساخرًا مُشيرًا بكلتا يديه في الهواء كأنه لاعب ساجات: نقابة إيه اللي عايزين يعملوها؟ .. الإعلام ده لعبتنا.
- كلامك سَليم معاليك.
- سيادتك سعادتك يا فندم أستاذنا.
- معاليك عند سعادة سيادتك كُلّْ الحقّْ يا باشا.
تتوالى عبارات كدابين الزفة، تتنهد راندا متأففة من الغفلة والغباوة التي فاقت كُلّ حد:
- تمام.. تمام..؛ منافقين.. مداهنين.
ضاغطة على أسنانها مُستاءة من حالة النفاق التي وصل إليها البشر في بلدها، مُتحدثة بصوت عالٍ غيرّ ملحوظ:
- زاد النفاق بالهبل وغطى.
- لدي مشروع يهَبِّل، .. سيضرِب النقابة في مقتل.
صوتٌ صاخبٌ مسرسعٌ تَهِبُ معه واقفة رفيقة صفدي رافعة يديها بغباوة شديدة. سيدة طويلة ممتلئة، بيضاوية التكوين، تشبه كرة الرجبي الأمريكية، رأسها مُدبب، مُنتفخةٌ عند الصدر والأرداف، تعود لتنحف عند أرجلها، خمريةٌ كالحة، تُطلي شفتيها بطلاءٍ أحمرٍ فاقع، تُزيد ملابسها المُلتصقة بجسدها من تشكيلها البيضاوي لتجعلها لا تستطيع التنفس. سألها سِمامة:
- ما هو مشروعك يا ست صفدي؟ .. إشجينا يا بلوى.. هاها
- وزارة الإعلام.. الملغاة في القرن الفائت .. لازم ترجع تاني.
بهت الكُلُّ للفكرة الجهنمية، لا تأتي إلَّا من داهية؛ كُل واحد من محترفي الهوجة وراكبي الموجة بكلمة:
- يخرب شياطينك يا صفدي، فكرة لا تخطر لبشري.
- سيادتك يا فندم الوزارة تغلق أبواب الأمل في النقابة.
- نعم .. معاليك.. لا للنقابة ما دامت الوزارة ستقوم بعمل اللازم .
- لدينا مشكلة، العالم ألغى وزارات الإعلام، كيف سنعيدها مرَّة ثانية؟
- محتاجين خطةٌ محكمة،
- صفدي.. طب إيه؟
- حملة إعلامية، يقوم بها معاوني معاليك سيادتك، تُبرِز الحاجة الماسة للوزارة في المرحلة التاريخية التي تمرُّ بها البلاد، نبين فيها أن عودتنا لهذا النظام يمثل لنا ريادة جديدة في المنطقة.
- معالي سعادة مدارات اللوطي أدرى سيادتك يافندم.
- صفدي أنتَ ومكتوب نبأ مسؤوليتكم الحملة.. بلبوص أنتَ وبرواز مهمتكم الوقوف ضد مشروع إنشاء النقابة، المهم علينا بتلفيق تُهمة مُحترمة للمعفن اللي اسمه الرفيء.
- الفقير يا فندم!!
- غيرَّ مهم.
- المهم أحلام معاليك أوامر.