الصينيون مرةً أخرى
أيهم نور الدين
كان اسكندر مزارعاً مجداً ذا يد خضراء وحظ عاثر .
البندورة والخيار وباقي الخضروات التي تمر من تحته يديه فائقة النضارة والطزاجة , فقد كان بفطرته صديقاً للبيئة ولا يستعمل سوى السماد العضوي , لكن سوء حظه وإعطائه المزروعات حقها يجعلها متأخرة نسبياً في القطاف عن المنافسين الآخرين , مما يترجم بأسعار متدنية عند بيع المحصول .
تزوج من مزنا , وكم حلم أثناء الركش والتبويط بيوشع الصغير الذي سيحمل اسم جده ويحمل كتفاً عنه عندما يكبر وهو ما لم يتم رغم زيارة جميع الأطباء والمزارات في المنطقة , وذبح عشرات الذبائح لمقام الشيخ فلان والشيخ علان مما استنفذ موارده الضئيلة أصلاً , .. وهكذا بقيت فرحته منقوصة .
جاء الصينيون إلى جبلة وجاءت معهم الآف الوظائف في معمل الغزل الجديد .
قبّل عشرات الأيدي بدءاً بالمختار وانتهاء بأبي حيدره والد العميد محمد البالغ النفوذ في سبيل الحصول على وظيفة ما لمزنا في معمل الغزل , فلعل راتبها القليل يسند البيت ولو بجزء بسيط , وعلى قول المثل : بحصة بتسند خابية .
وهذا ما كان .
عملت مزنا كمستخدمة في المعمل الجديد .. كانت وردياتها غير منتظمة ,أحياناً في الليل , وأحياناً في النهار , وساترها المولى .
بقيت الأمور على هذا المنوال حتى أغمي عليها في إحدى المرات من فرط العمل , فأخذوها لمشفى الأسعد القريب نسبياً من معمل الغزل , وأجروا لها الإسعافات الضرورية و ..... سرعان ما تبين للطبيب الماهر أن المخلوقة حامل في الشهر الرابع , والجنين صبي بصحة ممتازة .
أتى اسكندر إلى المشفى والدنيا لا تسعه من الفرح , فها هو يوشع الذي انتظره طويلاً سيبصر النور خلال الأشهر القليلة القادمة .
حمل مزنا على أكفف الراحات وعاد بها إلى البيت .
تعاطف أبو حيدرة والد العميد محمد معه فحصل لمزنا من المعمل على إجازة طويلة وإصابة عمل وغيرها من التعويضات ..
مرت الأيام سراعاً وأبصر يوشع النور على يد القابلة أم حسين .
كان يوشع صبياً سليم البنية , يملئ البيت صراخاً وحيوية , كأي صبي آخر يولد في أي مكان في العالم .. فقط عيناه .
كانت عيناه غير مرئيتين , وكأنهما غير موجودتين أصلاً ... كان مكان العينين شقان غير مرئيان .. لم يبالي الأبوان كثيراً بهذا , فقد أخبرتهم أم حسين أن الكثير من الأولاد يستقبلون الدنيا بعيون مماثلة , ولكن بعد أربعين يوماً لم يعد السكوت ممكناً , فأصرت الأم على الأب أن يأخذوا الطفل إلى طبيب العيون , وهذا ما حصل في اليوم التالي .
لم تكن العيادة مزدحمة فأدخلتهما الممرضة على الفور .
فحصه الطبيب بدقة ومهارة مستخدماً كل الأدوات والمناظير الموجودة في العيادة , ليخلص إلى أن الولد سليم معافى ولا يعاني من مشكلة , لكنه سأل مستغرباً : ليش ما جايه معه أبوه ؟؟
- شو متقول يا دكتور , هَنَا بيّو ( أبوه )
- مستحيل .. هاد الولد أبوه صيني .
لم يكن على الطبيب أن يقول ما قاله , لكن وقع المفاجأة وتعارض عيون الطفل مع كل أبجديات طب العيون في سورية , ربما هو ما دفعه لقول ما لا يتوجب على طبيب قوله .
لم ينتظر اسكندر ليخرج من عيادة الطبيب , بل انفجر على الفور في وجه زوجته :
- يا بنت الصرامي , هَنَا وظفتك بمعمل الغزل تتحبلي .
- وبتحط الحق عليّ .. هنت بتطلع كل يوم من الصبح وآبتجي لبعد المغرب هلكان مكسر وريحتك بتفطس من الزبل والجلة , بتتعشى وبتحط راسك وبتنام متل القتيل لتاني يوم ... وهَنَا .. هَنا بني آدم هَنَا .
- هلق صار الحق علي وا بنت بو جعفر , وحق أحمد بن قرفيص والسلطان ابراهيم وخضر بَكْسَا آ بترجعي ع الدار إذا آ بتزتي هالبندوق بوش بيّو .
كان آخر صيني قد غادر جبلة منذ أكثر من ستة أشهر , فقالت :
- ويلي , وين بدي انكشلك بيّو من بين مليار صيني .
عادت مزنا إلى الكراج ومنه إلى بيت أهلها .
تدخل الأوادم وأصلحوا ذات البين بعد أن استفتوا الشيخ بشير .. كان الشيخ بشير مفتي جبلة السني فقيهاً جليلاً ناهيك عن كونه بحر علم , والعجيب أن فتاويه مقبولة لدى معظم العلويين الحداديين واسكندر منهم .
قال الشيخ بشير : قال رسول الله ( ص ) الولد للفراش , وما لم يكن من ملاعنة بينكما فالولد لك , وما لم يكن هناك أربع شهداء رأوه كالميل بالمكحلة فلا يمكن اتهام الزوجة بالزنا , وأما التعريض بالزنا من قبل الزوجة فليس بإقرار , ومتى كانت الأنساب تهدم بالتعريض , ولعلها كانت غاضبة منك فعرضت بما سمعته لتغيظك أكثر , والقول المرسل لطبيب ليس حجة للطعن بالأنساب يا بني , فاتقوا الله .
أخذ اسكندر بيد مزنا وهو يحمل يوشع بحب وعادا إلى البيت .