هل هي ثورة أم فوضى؟

مقتطف من الكتاب الذي سيصدر قريبا بإحدى دور النشر بسلطنة عمان :

هل هي ثورة أم فوضى؟

شهاب الدين شريطي

[email protected]

 جلس إبليس على عرشه ذات يوم و قد أحاط به عدد هائل

من الجنود و الأتباع..كان يدير اجتماعا ما..يدير جلسة سرية

يخطط فيها لمصيبة جديدة و مكيدة كبيرة,

بينما هم في اجتماعهم و كان المكان يتقد نيرانا و شرارات

و ألسنة اللهب تتطاير كأنها المفرقعات... إذ هبت نسمة باردة

في أرجاء القصر و اقتحمت المكان...فزع الجميع و ارتسمت

في أعينهم نظرات غريبة

قال إبليس : " ما هذه النسمات ؟ "

صمت الجميع و قد بدأت فرائصهم ترتعد..فصرخ فيهم ثانية :

" ما هذه النسمات ؟ "

و التفت إلى كبير مستشاريه فأجابه و قد غصت الكلمات

في حلقه : " إنها نسمات الحرية يا سيدي"

ارتسم الحنق على وجه إبليس و قد قام من متكئه و ضرب

طاولة كانت أمامه بيديه فقسمها نصفين من شدة قوته و جبروته

و صاح في الملأ : " من أخلى سبيلها ؟ من الذي تجرأ على تحريرها؟

ائتوني بها حالا و قيدوها"

انتشر الجنود بلمح البصر و طاروا في كل مكان و جابوا البلاد

و المدائن و حلقوا فوق الجبال و نزلوا الوديان و اقتحموا الكهوف

و جحور الأفاعي بحثا عن الحرية , فلم يعثروا عليها.

جن جنون إبليس و قال : " من يأتني بها أزوجه إياها".. و يا لها من عروس

كانت الحرية امرأة جميلة في مقتبل العمر, كانت أشبه بملاك

سماوي أو مخلوق من نور أو لعلها كانت أجمل من ذلك كله

هي ابنة آلهة الجمال و الوريثة الشرعية للسلام..و هي حارس

عالم البشر.

جمالها الآسر الخلاب كان حديث العالم كله...كانت عيون بني البشر

تتوق للنظر إليها عبر العصور, ليشعروا بذلك الشعور الجميل

الغريب و كأن يد الله تأخذك و تقودك نحو مدائن الخلد و العوالم

الفاضلة و الجنان الأبدية.

لأجلها مات من مات وسجن من سجن و عذب من عذب

لأجلها دفعت الأثمان الباهظة لأنها تستحق العناء..لأن مهر العروس

الجميلة لا بد أن يكون من أغلى ما يكون...

 فشرف المناضلين لها يرخس و كبرياء الصناديد يحنو أمام سموها

وغطرسة الجبابرة تذوب في حضرتها كما يذوب الملح في حضرة المحيط.

بينما كان إبليس و زبانيته يجوبون القرى و المدائن و يتجسسون

على خلق الله لعله يصلهم نبأ ما أو خبر عن مكان تواجدها

كانت صاحبتنا متخفية في ثوبها الطويل و تتنقل من بلاد

إلى أخرى و تتجول مع نسمات الصباح و خيوط النور..كانت تلبس

الليل رداء و تلتحف النهار ثوبا و تشرب من عين الشمس

إذا أطلت كل فجر...نور الصباح, و تستحم بقطرات الندى الباردة

المنعشة و تتعطر بروح الطبيعة و خلاصة أريج المروج.

في رحلتها نحو غايتها المنشودة, مرت ببلدان كثيرة و رأت أحوال

الشعوب المختلفة و نظرت بعين الحسرة إلى أقوام يرزحون

في العبودية الصماء و أشفقت على أناس يرتشفون الجمال

الممزوج بسم الأفاعي و الحيات..

و أمام أحد المدائن تسمرت عيناها فجلست على أعتابها و أخذت

تتجول بأنظارها بين تلك الربوع الجميلة و تملأ رئتيها بعبير الفل

و الياسمين...لم تتمالك نفسها من شدة الفرحة فخرت على قدميها

و سجدت لله سجدة طويلة و قالت :" الحمد لله الذي أرشدني

هذا السبيل و جمعني بأحبتي من بعد الفراق الطويل"

و مرغت رأسها في تراب هذا البلد و أمسكت قبضة منه و دموعها

تتلألأ في مقلتيها كأنها الشهب المسيرة

و أخذت تنشد أغنية الحياة.

نزلت بأرض تونس الخضراء متخفية و جابت الربوع و القرى

من شمالها إلى جنوبها... من بنزرت إلى برج الخضراء

و مرت بمناطق الحوض المنجمي بجهة قفصة و استقرت فوق

البناية الشاهقة المعروفة باسم " الزاوية" من مدينة الرديف

و أذنت في الناس :" يا شعب قم...لا خوف بعد اليوم"

فانتفض أهالي الحوض المنجمي ضد فرعون و أعوانه...

و كانت الملحمة العظيمة و سقط الشهداء و الجرحى و دوت

الهبة الشعبية و زعزعت أركان دولة الفساد... كانت الملحمة بطولية

سيكتبها التاريخ و سيؤرخها المؤرخون في سجلات العصر الحديث

بماء العيون و سيتذكرها غدا الشباب و الشيوخ و الأطفال,

لأنها كانت أول مسمار يدق في نعش الغراب.

انتشر مرتزقة إبليس في كل مكان و تدافع الجواسيس و الخونة

و القتلة في كل مكان و صار البحث حثيثا... و قد تناقل بعض

الشياطين أخبارا تفيد تحديد مكان المفتش عنها.

أدركت الحرية خطورة الموقف فاختبأت مدة من الزمن في تلك

الربوع المنسية... فاقتربت من الناس و انغمست فيهم و زرعت

فيهم بذورا من صنع الإله, كانت ترى الظلم و الجور و الغبن

و الفقر يثقل كاهل الناس, فكانت تبيت ليلها مستمعة شهقات

المساكين و المحرومين و تصبح على صراخ الأطفال الجياع

الطالبين لقمة العيش التي تسد جوعهم و تخفف آلامهم,

لم تستطع الحرية أن تتمالك نفسها و قد أصابها الأسى لحال

هؤلاء الناس الأشقياء.... و دون أن تطيل التفكير قررت

أن تتحدى سلطة إبليس و أعوانه و أن تقوم بواجبها تجاه هذا

الشعب.

انطلقت في لحظة تاريخية فاصلة صوب قمة جبل "الشعانبي",

جذبت من داخل ردائها بوقا من نور و نفخت نفخة الحياة

و نادت بأعلى صوتها:

-أيها الأشقياء ثوروا ثورة الغضب..

-يا سكان المنافي عودوا...

-يا سكان السجون تحرروا من القيود و أقبلوا على الحياة.

و يا سكان هذه الأرض الطيبة مدوا أيديكم للسلام و انعموا به.  

كان نداء عظيما بعث بإشارات لا يفهمها و لا يفك رموزها إلا

أصحاب القلوب الحية و البصائر و الضمائر الصافية...استقبل

هذا الشعب النداء و هبوا لنصرة الحق و ليفتدوا الوطن بكل غال

و عزيز... و كان أول الشهداء "محمد البوعزيزي" رحمه الله,

كانت ثورة على الظلم و الطغيان شارك فيها الجميع...الكبير

و الصغير.. النساء و الرجال.. و كانت ضريبة النصر و الحرية

أرواح الشهداء و دماء الجرحى.

كانت الحرية تنتقل بين الربوع مزهوة بهذا الحدث العظيم

طربة جذلانة بنصر هذا الشعب العظيم,

لكنها ظلت تخشى عودة الطغيان..فراحت كعادتها تتستر تحت

ردائها الطويل تراقب حال البلاد و أحوال العباد,

و لم تدم فرحتها طويلا لأن هذه الثورة العظيمة, هذه الثورة الأولى

في هذا القرن الجديد فرضت واقعا جديدا, بعيون الأسى و الحزن

حدقت الحرية في وجوه الناس فلم تعد تعرف أصحاب هذه

الوجوه فراحت تقول: " أنا لازلت غريبة في هذا البلد...فلم لا

يفهمني الناس و لم لم يعرف حقيقتي أي أحد"

كانت ترى النزاعات السياسية و المطالب الشعبية ترتفع,

الكل يلهث وراء مصلحته و غايته...الكل انصرف إلى أولوياته و طمع

في تحقيق رغباته...و نسوا أن هذه البلاد لا تزال جريحة و تنتظر

أن تسترد عافيتها.

ماذا تريدون ؟

و عن أي حقوق تتكلمون ؟

لم تطلبون قمحا من أرض لم تضرب بها أياديكم ضربة معول ؟

و كيف تتوقعون اخضرار الأرض بلا أمطار ؟

و متى نزل الثلج في أيلول ؟

و متى حصد الشعير في آذار ؟

لا تتكلموا باسمي ... و لا تجعلوني مجرد شعار ترددونه

في المحافل و في المناسبات, ترتدونه كالثياب كل صباح

و تنزعونه ليلا قبل النوم,

لا تتخذوني كالعلكة تمتصون حلاوتها ثم ترمونها على قارعة

الطرقات إذا استهلكتم تلك الحلاوة,

لا تجعلوني كجواز السفر تستعملونه لعبور الضفاف الأخرى

ثم ترمونه داخل الخزائن و يصير منسيا بين زوايا الرفوف.

الكل صار يتكلم عني لكن لا أحد منكم عرفني و فهمني,

فأنتم لم تنظروا إلى وجهي الحقيقي و لم يطلع أي منكم

على جوهري و مضموني و لم يقف أي منكم عند حدودي,

فأنا لست الكمال الأبدي و الحقيقة المطلقة,

أنا لست سوى امرأة جميلة متوهجة الجمال , مشرقة الإطلالة

لكن جمالي هذا يخفي وراءه جنوني الدفين و تهوري السجين,

و لولا إخوتي لهلك العالم في بحار الظلمات و الفوضى و الجنون,

هل عرفتم من هم إخوتي الذين لولا وجودهم لما وجدت ؟

إنهم المسئولية و الالتزام و الأخلاق...فبدونهم ما كان لكم

أن تعرفوني أو حتى تسمعوا بي,

فكيف ترضون وجودي بينكم و لا تقبلون بهم فنحن لا نفترق و لا يعيش أي منا بمفرده,

استقبلوا إخوتي و لا تكابروا...فإن الكبر خصال بنو الشيطان,

إني أنا الحرية فاستنشقوا نسائمي و تمتعوا بجمالي و هذا مداي

و امتدادي فسيروا فيه و هذه حدودي فلا تقربوها.

-أيها الناس

أيها المبدع و المثقف و الفنان...أ ليس خداعا للنفس و للضمير

أن تهزأ بي ؟

أ ليس ظلما و جورا أن تتاجر باسمي ؟

إن الفن الذي تأتي به و الإبداع الذي تجيده هو في حد ذاته غير حر,

لأنك مقيد بفكرة و بمرجعية و بكاتب و بسيناريو و بآليات للعمل,

ثم تحاول ممارسة الحرية على حساب الجمهور و عامة الشعب .

هل تمارس الإبداع لأجل الإبداع أم كي تنال رضا الآخرين ؟

إن كان شغفا لأجل الإبداع فالأولى مراعاة و احترام الفن

الجميل الذي أنت بصدد القيام به... و إن كان الإبداع بالنسبة

لك هدفه كسب إعجاب الآخرين فالخطوة الأولى عليك كسب

احترامهم و ذلك من خلال عدم التعدي عليهم,

و إن كانت غايتك الكسب المادي, فلك الحق في ذلك...لكن

لا تقل إنك فنان أو مبدع لأنك حينها ستصبح تاجرا,و التجارة

  لا تعترف إلا بمعنيين لا ثالث لهما... إما الربح أو الخسارة .

إن الفن و الإبداع أفكار و إنارة و تغيير و ليس أموالا و تجارة .

- أيها المتدين أ لم تعلم أن الله تبارك و تعالى قال لرسوله

الكريم :" فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" ,

فكن القدوة الحسنة و المتسامح و جادل بالتي هي أحسن

و ترفق بإخوانك و كن حليما و قدم دوما الانطباع الحسن

و كن لينا و لا تظن أن أقدار الناس و هدايتهم بيديك, لأنك

لا تهدي من تحب , لكن الله يهدي من يشاء .أيها الناس كونوا

 إخوانا و تحابوا و افشواالسلام بينكم

و لا تقولوا ماذا قدم لنا الوطن...بل قولوا ماذا قدمنا نحن له .