السيد الكريم
حيدر الحدراوي
يميل مع الرياح , يطير في الهواء , لا تكاد قدماه تلامسان الارض , يتموج , يتلاطم كأمواج بحر هائج , موجة تلتهم موجة , ينبع , يتدفق كالماء , يسيل في البحار والانهار , يغمر البراري والقفار , يملأ احواض الوديان , يتسلق الصخور , ليغازل قمم الجبال ! .
يتقدمه الخطر , الرعب , الهلاك , تسبقه صرخات فزع , هلع , خوف , يتغذى على اوجاع آلام ضحاياه , اسود كالح , مظلم , معتم , بلونه يسم مناطقه ورعاياه , يطلي الحجر والمدر من تحته , تخشاه القطط والفئران , وكل حيوان , لا تهابه الاسود والرجال الشجعان ! .
يصرخ غير مستصرخ , بصوته الاجش :
- هل وجدتم السيد الكريم ؟ .
- لم نعثر له على اثر ! .
- هل اكتسحتم كل شيء ؟ .
- نعم سيدي ... الوديان والبراري ... الغابات والقفار .
- اغبياء ... اغفلتم الفضاء ... وقمم الجبال وتلك الصحراء ! .
نعقت الغربان , محلقة في عنان السماء , من ورائها دخان اسود , حجبت ضياء الشمس , اعدمت نقاء الهواء , فتهاوت الطيور , لعدم الرؤيا , وربما نفقت لعدم القدرة على الاستنشاق , فغدت فريسة للضباع .
داعب سيل اسود تلك القمم البيضاء , لتلك الجبال الشماء , اندحر وتقهقر كلما حاول التسلق والصعود , انصرع وتلوى كلما حاول النظر , حتى شارفت ان تخرج من محاجرها العيون , فغاصت الغربان في ذلك السيل , حتى ابتل ريشها , ثم حلقت , التصقت بالقمم , لطختها تلطيخا .
غزا سيل اسود تلك الصحراء , يتقدم ببطء , بسكينة وترو , مبتلعا الرمال , مداعبا الكثبان , فتوقف عند سماع زئير اسد مقدام , فزعق بصوت اجش جبان :
- سيدي انه الاسد ! .
- اغمروه بالدخان ... صبوا من تحت اقدامه الزفت والقار ! .
وقف الاسد مبهوتا , لما يجري , لكن عيناه لا تزالان تبرقان .
- سيدي ... لا يزال في عينيه بريق ! .
- اطمسوا له تلك العيون ! .
لاح بريق في السماء , دوى رعد هادر , تناثرت حبيبات مطر اسود , كبيرة , ثقيلة , لزجة , ذات طلاء , فتقدم احدهم ليقرأ التقرير , انحنى امام زعيمهم الكبـير :
- سيدي ... لم نعثر على السيد الكريم ... لعله مات او هلك ! .
نهض من كرسيه مغضوضبا , صارخا بشذوذ , كادت حنجرته تخرج من فيه :
- اغبياء ... اغبياء ... اغبياء ... انه ينتظر اكتمال الوفاء ! .
*************************
غادرت العجوز الشمطاء تلك القرية النائية , قاصدة المدينة , تسير ببطء وتثاقل , وفي منتصف الطريق , لاح لها دخان اسود كثيف , فظهرت لها هيئة مكفهرة , لا ثابتة لا مستقرة , فقالت ( كش وبره ) , نفخ في عقلها , فطربت وخفت , قبّل قلبها , فهشت وبشت , مسح على تجاعيدها , فتلاشت وأختفت , داعب جسدها بأصابعه , فأستقرت فتاة ذات قوام رشيق , فقال لها مشيرا الى ظلمة الدخان :
- ما هذا ؟ .
- نور وجمال ... سناء وضياء ! .
نظر حوله , وخاطب اعوانه مشيرا الى العجوز :
- كيف ترونها ؟ .
- عنفوان الشباب ... الق وبهاء ! .
فأذا بشاب مغمور , يسير بطرب وسرور , يردد اغنية ما بحبور , وقع نظره عليه , التفت نحوها وقال :
- تلوي كأفعى ... ابتلعي لسانه ... امتصي طاقاته ... اسرقي مدركاته ... غيبي حواسه ! .
- امرك سيدي ! .
التفتت نحوه , غرست كلتا يداها في شعرها , فتحته , نشرته في الهواء , ثم سارت تتمايل بترو , وقالت له :
- اقبل ايها المعتوه ! .
تسمرت قدماه في الارض , لا يعرف ماذا يفعل , تبددت قواه بين الجبن والذهول , فتحرك نحوه الدخان وقال له :
- هيا ايها المعتوه ... الحياة فرص ... فلا تضيع هذه الفرصة ! .
فأرتمى بين احضانها , بلا وعي او ادراك ! .
****************************
اصطفت الصفوف , بنسق مألوف , وغير مألوف , بشكل هندسي معروف , وحتى غير معروف , تفحص الجيش من حيث الوقوف , تفقد الراية فكانت من جلد الخروف , زينت اطرافها بطلاء الصوف , وكتب في وسطها عدة حروف , ابتسم بخبث وصرخ بصوت تردد صداه :
- ايها السيد الكريم ... اننا قادمون ! .
استل السيف , لوح به يمينا ويسارا , فأشار به وهو يغرسه في الهواء , وقال :
- الى الامام ! .
تصاعد الدخان , وتدفقت السيول السوداء , محطمة الاسوار والجدران , اقتحمت المدن والقرى , فدوى صريخ الضحايا في الافاق , يملأ عنان السماء , لا مغيث ولا ناصر , فتك وهتك , بكاء ونحيب .
مهرولا جاء , ليقرأ بأنحناء , تقرير نتائج هذا الوباء :
- لقد غمرنا كل مكان , البحار والانهار , الصحاري والقفار , الغابات , المزارع , الجبال , الكهوف والمغارات , لم يبق شبرا الا وغمرناه اما بسيل او بدخان ... لقد حاصرناه واحطنا به من كل مكان , لقد اخذنا عليه مسالك الارض ومطبات الهواء , ولم نعثر للسيد الكريم على اثر ! .
بغضب نهض , حدق فيه وامتعض , وقال :
- انه هناك ... يرانا ولا نكاد نراه ... سأنزل للبحث عنه بنفسي ! .
***************************
تدفق سيل اسود , يجري جريان الماء , يتفحص الاشياء , فتوقف عند مروج خضراء , احرقته لسعة الضياء , فنظر في السماء , بحثا عن مصدر السناء , فشاهد رجلا في غاية البهاء , لم يشهد من قبل مثل هذا النقاء , صفاء في صفاء في صفاء , فزعق بصوت العنقاء :
- انه السيد الكريم ! .
استعد السيل للقاء , فتقدم الاقوياء , هاج السيل وماج , تكاثف وتراصف , فأنجب وحشا عملاقا .
الوحش : لقد اشتقنا لهذا اللقاء ! .
السيد الكريم : فأستعد اذا للقضاء ! .
انحسر الظلام , وتراجع السيل متقهقرا , فغدا كالركام , عندما استل السيد الكريم الحسام , لوح به يمينا ويسارا , ثم غرسه في وسط الحطام , فتساقطت الغربان , وانجلى الدخان , وغار السيل في ثقب غرس السيف , فأشرقت الارض بنور ربها ! .