حلمي الذي مضى في غير رجعة
سليمان عبد الله حمد
تزدحم صور الماضى فى الخاطر مثل تزاحم العاملين عند الأوبة بعد انتهآء العمل فى محطات وسآئل الموآصلآت ،وتختلف ملامح وسمآت البشر من الرجال والنسآء ، وهكذا الحآل فى ذكريات القرية ، فمنها ما يستوقف المرء لطرآفتها أو غرآبتها ، ومنها ما تمر بها غير آبه بها ولا تحرك فيك أو تترك أثرا" مثل أعمدة التلغرآف التى تتسابق الى الورآء عند مرور القطار .
ومن الشخصيات فى القرية التى تلح على الذاكرة حتى ترضخ لتذكرها . شاب فى منتصف العشرينات من العمر مربوع القآمة متسع العينين بهما حمرة وتغشاها أطياف من قسوة ، وتتضح فى صوته عندما يتكلم فالصوت عآل مزعج يتأذى منه السمع ، وكان الفتى يميل بطبعه الى الخلاف فى الرأى والى العراك ، ولعل تعامله مع ماكينات السيارآت ـ فهو ميكانيكى سيارات ـ تعود على الصوت العالى والمزعج ، وقد لحظت ان جميع ( الميكانيكية ) يطرقون أجزآء من السيآرة بالشاكوش وكأن عندهم ثأر معها ، ويخيل لك ان الجزء المطروق من السيارة يصرخ ويستغيث ...!!!
كان صاحبنا
الميكانيكى يعرف فى القرية ونناديه بود فاطمة
، ولم يعرف اسمه الحقيقى الا قلة منا فهو يتيم فقد والده
منذ ان كان فى التاسعة من
عمره ، وتولت أمه فاطمة تربيته ، ولما كانوا من أسرة فقيرة فان
فاطمة بدأت العمل
كفراشة فى المستشفى ، ثم تركت العمل وصارت (دلالية) تبيع الملابس النسآئية وملابس
الأطفال لربات البيوت بالتقسيط . وراجت تجارتها لما فيها
من تيسير على ربات البيوت
ومحدودى الدخل من العمال أو صغآر الموظفين
.
وكانت فاطمة تمتلك شخصية قوية
وطلآقة لسآن ومهابة بين النسآء والرجال ، واستطاعت أن
تربى أبنها الوحيد يونس
وتنشئه خير تنشئة ، ولم تحتاج لعون مادى أو معنوى من أحد سوآء
من قريب أو بعيد ،
ولكن ود فاطمة ابدى صدودا" عن التعليم وترك الدراسة بعد ان كثرت مشاكله فى المدرسة
بين زملآئه التلآميذ ، وتعدتهم الى مدرسيه ، ولم يمر يوم
واحد دون ان توقع عليه
عقوبة الجلد ، وحاولت والدته فاطمة أن تثنيه عن ترك الدراسة
مكررة نصحها وقولها له ( يا
ولدى أذهب للمدرسة .. بكرة أشوفك دكتور ولا مهندس وطيار ولا
مدرس .. ، ويرد عليها بصوت يحاول أن تكون فيه رقة )
يا أمى أنا بشتغل عشان أريحك من هذا التعب فأنا حاسي بيك ،
والدراسة انا ممكن ادرس بالمسا واتحصل على شهادة ) وتستسلم الأم مرغمة وترد عليه
بحنان : (الله يهديك يا ولدى ويسهل عليك)
...
وا كمل ود فاطمة المرحلة المتوسطة بنجاح مما شجعه ورفع طموحه للاستمرار فى التعلم الى مرحلة أعلى . وعمل بالنهار بمكانيكا السيارات واظهر فيها تقدما" ملحوظا" ، واحرز سمعة طيبة وفى تلك الايام كنت فى بداية عملى بالتدريس وكان أعز اصدقآئى يسكن مع اهله بالقرب من منزل ود فاطمة ، وكانوا يمتون اليهم بصلة قرابة بعيدة ، وكلم ود فاطمة صديقى بأن يطلب منى ان اساعده فى اللغة الانجليزية ، ورحبت بذلك واخبرته باننى لن اتقاضى منه اى نقود نظير ذلك ، فأنا لم اكن اعطى دروسا" خاصة حتى نهاية عملى بالتدريس ، فنحن المدرسين فى ذلك الزمن لم نعرف الدروس الخصوصية وكان ما يلقآه المدرس من راتب يكفيه تماما" ، ودرست له كل الكتب المقررة فى المنهج . وبمرور الايآم تحسن طبع ود فاطمة العنيف وكان اخر شجار له مع اثنين من شبان الحلة ضربه احدهما بعكاز على جبهته واحدث بها جرحا" اسال دمه ، وجرى ولد صغير الى منزل الحاجة فاطمة ودفع الباب وهو يلهث وفى صوت عال متقطع قال لها (خالتى فاطمة الحقى يونس فى اتنين ضربوه وسيحوا دمه ) وصرخت الحاجة فاطمة ملتاعة وخطفت سكينة الحديد وانطلقت كالرصاصة وهى تصرخ ، ولما رأى الشابان الحاجة فاطمة مقبلة كالاعصار وهى تلوح بالسكين اطلقا سيقانهم جارين هاربين.
ومرت الأيام ، وتحقق الحلم وصدقه الواقع ، والتحق ود فاطمة بالمعهد الفنى وتخرج واصبح مهندسا" ، ثم تزوج من القرية وأنجب فتى وفتاه حلوه ...
وعلمت بعد عدة سنوآت بوفاة ود فاطمة مقتولا" فى شجآر بطعنة سكين .
هذه بعض حكايات وقصص أهل القرية في ذاك الزمان الجميل ... فهي ذكريات وصور صورت بكاميرا ذاك الزمان .... فهي تحكي حلمي الذي مضى في غير رجعة ... أي تصوير لتلك الأحداث من خلال ما يعرف بكاميرا الواقع الجميل ...