صورة
عبد الزهرة لازم شباري
أطرق برأسه ساعة ، ودار نحو طاولة وضعت عليها أصباغا مختلفة الألوان ، وفرشاً صغيرة بغير نظام ووريقات رسم على بعضها بضع خطوط وأشكال غير مألوفة ، والبعض الآخر ترك على حاله !
الطاولة عتيقة وملطخة بالألوان ، والكرسي الذي يقف أمامها هو الآخر في حالة بائسة ، لا يكاد يحمله عندما ينتصب عليه ويلقي بثقله على الطاولة المعدة لعمله !
أعد مكانه ومسك فرشاته وراح يمزج الألوان مع بعضها ويلطخ قطعة قماش بيضاء أمامه ، تأمل مفكراً ليعد ما بذاكرته من وهج الأيام وتعاسة الزمن وعهر السنين ، الطبيعة أمامه ماثلة بتحدي ، النخيل شامخة تزهو بجريدها الأخضر وعذوقها المتدلية وهي تزهو بألوان ثمرها ألأخضر والأصفر والبعض الآخر على النصف ، المزروعات على عادتها تبسط الأرض بسجادة من الخضر والأزهار التي
تحاكي الندى ، الطيور على اختلاف أشكالها تناغي على هامات النخيل وتردد فروض الصلاة عند الصباح !
هائماً لا يدري ما به ، وبم يفكر ، كل هذه العلامات والمناظر التي أمامه لم تجلب انتباهه ولا تحرك صمته ، كذلك لم تجرؤ على تحريك فرشاته المعدة لما يريده في هذه الحيرة !
أصابعه الملطخة بالألوان ترتجف وتنثر رذاذ ما بها على قطعة قماشه التي أمامه وهو في غفلة عن ما يجري !
يقبع في زاوية تفكيره ويداعب رجليه المتدلية من خشبة كرسيه المكسور وهو يموسق ألحان حركية وصوت الخشب البالي ، يتدلى من ذاكرته مظهراً كان قد ألفه سنيناً عندما كان صغيراً ويتيماً تحت رعاية خالته التي تقطن في قرية تبعد عدة فراسخ عن محل سكناه .
أنه وجع داخلي يراوده في كل سكناته ، ذكريات مرة ، وزوبعة أليمة من اليتم كانت قد ألمت به ، يحاول أن يبدأ إشكالية لوحته وخطوطها كما بدأها سابقاً بالكلمات التي طالما تغنى بها !
يذهب راجلاً يدمي قدميه وخز الأشواك والدروب الملتوية وحفر السواقي ، إنها هناك يتثاءب دمعها حناناً وشوقاً عليه .
صورتها تمزق شبح الوهم الذي خيم عليه ، ذكريات الزمن المباح وهي تؤم رأسه المتعب بتفاصيل واقعه الأليم ، وفراديس الفقر وبساطة الترف الريفي وطيبة النفوس !
( صبر ) هذا بن أختك قادم من بعيد يحمل أساه ويتمه ( عينك عليه ) تقولها بحنان مفرط ، إنه قادم يحدو الطريق إلينا ليخفف ما على عاتقه من هموم هذه الدنيا
البائسة ، هكذا كانت تسمي أخاها بكلمة لا مثيل لها ، كلمة تقطر حناناً وحنو ( صبر) ، ينقطع الكلام عنها !
يمتثل لها ويرعاها ، لأنها كل شيء لديه ، إنها تمثل أمه الذي فقدها صغيراً ، وأخته ومن أشرفت على تربيته وهو لا يزال غضاً ّ!
هكذا تصبح الفكرة لديه جاهزة ، والصورة الخيالية تطل على فكره بكل ما تحمل من إشكالات ودموع وأسى ، وضع فرشاته على قطعة القماش وراح يرسم وجهها أولا ً لطخ ما سواه بألوانه السوداء والخضراء والصفراء ، توقف عن إدحاك فرشاته على الألوان غاطاً بنوبة حزن تراءت له يوم أن رآها على حالها بعد أن فقدت كل شيء ، بيتها ، حيواناتها ، بستانها ، أراضيها ، حتى أخوها الذي بعد عنها وبقيت لا تراه إلا َ وشالاً ، أبناء أختها بعدهم الزمن عنها وذابوا في خضم آلاته القاسية ، أصبحت قشة خفيفة هزيلة في كوخها تحركها الهواجس والظنون والأمراض بعد ما فقدت كل شيء كان لديها وبعصمتها !
فقدت محبيها وعشاقها وروحها وبقت حكاياتها التي نقضَي بها الليالي على مواقد الشتاء ، تلوك بها الأيام ، وحنان قلبها العائم معها يفتش عن مخابئ الأحبة !
لم تسأم يوماً ، ولم تعتب على ما فاتها ، قلعة تمثل الصمود ، شامخة لا تحركها الهواجس ، يحرك فرشاته على الخطوط التي أمامه ويعلق ما رسمته أنامله الملطخة بالألوان ويطوف برأسه المثقل بالهموم ويسح دمعة على الجدار !!