البؤساء في مخيم "الزعتري"!
البؤساء في مخيم "الزعتري"!
م. موفق أبوحمدية
حولك الصحراء، بجوّها الخانق صيفاً، البارد شتاءً، تجري السيول فتغمر الأرض، يبحث الأطفال عن ألعاب يشبعون فيها غريزة "الشقاوة" فما يجدون غير الطين بوحله الذي يتغمّس فيه أطفال "الزعتريّ" حتى الرُّكب، يجلس الكبار يغتابون شوارعهم وبيوتهم ومن بقي من أهلهم في تلك الديار، وكلما أتت أمة بشّرت قومها:
- النصر اقترب، والضريبة تليق بحجم القادم الذي سيشب عن الطوق عندما يولد.
الريح العاتية تلطم أشرعة الخيام لتجبرها على كشف سوأة مَن تحتها، ومع كل انفتاق يتسرب البرد إلى جسوم المتحلقين حول مدفأة الغاز التي حصل عليها "محمد" من جمعية خيرية تنشط في مساعدة النازحينأت، درجة الحرارة المتوسطة في تلك المظلة زائر خفيف الإغباب، كلما يستأنس به أهل البيت حتى ينتفض حاملاً أمتعته على عجل غير آبهٍ بتوسلات الصغار الذين يتسولونه "ليرات" الدفء الذهبية.
قام "محمد" بوضع حدٍّ لصفارات الريح الباردة، فأتى بصخرة ليضعها على ناصية الخيمة، تنهّد الصغار راضين عن فعل والدهم، غطاهم الدفء بأجنحته الورديّة، فأوصلهم إلى أرائك الراحة التي قلّما ينعم بميزاتها غريب عن وطنه، ثلاثة أطفال ناموا بجانب بعضهم، الأقرب للبرد اسمه "مهاب"، سَعَلَ بتتابعٍ وهو نائم، فتقدمت "جميلة" لتتحسس حرارة ابنها النائم ، قالت والقلق بادٍ على وجهها الشاحب:
- حرارة "مهاب" مرتفعة !.
نظر "محمد" إليها، طالباً منها أن تهدأ، فالأمر لا يعدو عن كونه ارتفاعاً طفيفاً في درجة الحرارة، يوضع في مربع الأمراض الطبيعية في هكذا جو ومكان!. فقالت له:
- ليس طبيعي؛ بسبب هذا الجو وهذا المكان !.
فردّ عليها مطمئناً :
- غداً نأخذه إلى العيادة إن شاء الله.
ثم صمتت "جميلة" راضية بما آل إليه النقاش، جلست بجانب ابنها، وتذكرت تلك الليلة المحاقية من ربيع عام 2011م التي غيّرت مشهد الثورة السورية الوليدة، التي انقض عليها غيلان "النظام"، فأحالوا الأرض إلى غابة خوف لا أمان لهم إلا بالهروب منها، قبل ذلك بأيام، دخل زوجها "محمد" مصفر الوجه، تبدو على قسمات وجهه علامات القلق والترقب والخوف من المجهول، قال لها بتمتمات تعكس اضطرابه الشعوريّ:
- أطلقوا الرصاص الحيّ، قتلوا الصغار والكبار، مجرمون، ليسوا بشر ..
لم يكن يومها يتوقع أستاذ التاريخ في مدرسة "ثانوية الثورة" أن يشعل طلاب الابتدائية في مدينته أوار انتفاضة تنادي بالحرية!. تتذكر "جميلة" ذلك الفخر الذي انبعث من كلمات الأستاذ "محمد" عندما قال يومها:
- درعا ، حيث نعيش ونسكن ، تسمى في كتب التاريخ "أذرعات الشام"
صمت لبرهة ، ثم أكمل حديثه بلسان عجوز يسرد حكايةً ببرود التاريخ :
- إليها لجأ يهود بني قنينقاع بعد أن نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة بدر ، ولم تمر سنة حتى لفظتهم مدينتنا فهلكوا جميعاً على أرضها . هنا مدينة "الشرارات" ، "شرارة" ثورة الفيصل عام 1918م ، و"شرارة" ما قد يبدو أنه ثورة قدحها أطفال مدينتا الذين سئموا من تقليب صفحات "التاريخ" ، فآثروا أن يكتبوها .!
رحل "محمد" وزوجته وأطفاله الثلاثة هاربين من التشبيح المنظم الذي ساوى بين الرب والعبد، وحلوا ضيوفاً على أقارب وجيران و أهل خير، زادت المسؤولية وزاد الخوف كذلك، فما وجدوا سوى الحدود فاتحة ذراعيها لحضنهم، فلما اقتربوا منها لسعتهم بشوكٍ أدمى جسومهم النحيلة، كان هذا في شهر آب أغسطس من عام 2012،وكان وقتها غمر مخيم الزعتري شهراً واحداً إلا بضعة أيام!. ذكريات البيت الذي جمع جبالاً من الحب والاحترام والمناسبات التي مُزجت فيها دموع الفرح بالحزن، تحوّل إلى ركام وأطلال، هذا كان آخر خبر تلقوه من مدينتهم، لم يسألوا بعدها عن شيء!.
- جميلة، جميلة ...
اقترب منها، لوّح بباطن كفه أمام عينيها، استنتج أنها تائهة في عَقْلَنَةِ اللامعقول، وكزَها، ثم قال :
- المطر شديد جداً في الخارج، وإن استمر على هذه الحال، فسنغرق !.
تحسست حرارة ابنها مرة أخرى، ثم قالت:
- وماذا نفعل؟ ، حرارة الولد مرتفعة.
ثم أردفت والدهشة تملؤها:
- انظر، انظر، حتى مدفئة الغاز على وشك الانتهاء!.
في "الزعتريّ" جِرار الغاز تُبدّل كل خمسة عشر يوماً، لا تعيش سوى أيام معدودة في هكذا جو !. كانت الشلالات المطرية سخية بشكل لا يتناسب مع البخل الصحراويّ، بدأ منسوب المياه الرملية بالارتفاع شيئاً فشيئاً، تنادى جيران الخيام، علت الأصوات، خرج محمد من "المظلة"، وتداعى الرجال وقرروا ترك الخيام والتوجه إلى "الكرفانات" الموجودة عند أطراف المخيم .
دخل محمد إلى الخيمة، كان الصغار قد استيقظوا على إثر الجلبة التي حصلت، "مهاب" لم يقوَ على الوقوف، فحملته أمه على ظهرها، وأمرته بضرورة أن يتشبث برأسها لكي تحمل بعض الأغطية والملابس وحصيلتهم من المؤن الغذائية التي تتميز بجودتها المنخفضة إلى "الجرافان"، سأل "مهاب" أمه:
- إلى أين نحن ذاهبون؟
فقالت له:
- إلى غرفة الضيوف، إلى غرفة الضيوف!.
في تلك الليلة أمطرت، فغرقت خيام، وتكوّنت بحيرات صغيرة ذكّرت الناس بجداول الماء التي كانوا يرونها في "الشام"، وفي الصباح توجهت "جميلة" لتلك العيادة المتواضعة، لتعرض طفلها على الطبيب، فلم يجد دواء سوى "البروفين"!، وهو مسكن للآلآم، ذو آثار جانبية صحية سيئة!، لعلاج "مهاب" وغيره من مرضى "المخيم".
بعد هذه الليلة المطيرة، تناوب الإعياء على أطفال "جميلة" و"محمد"، وباقي أطفال المخيم، الماء لونه أصفر، ونوعية الغذاء المقدم سيء وسيء جداً، تناوبت المنخفضات الجوية على تلك البقعة التي تعلم المعنى الحقيقي لكلمة "منخفض"، كان البرد ينهش من صحة الكبار، فيضعفهم ويمرضهم، فكيف بالصغار؟!.
سقط الثلج، زاد البرد، رأى الأطفال في البياض، كفناً كبيراً يتسع لأجسادهم وأحلامهم وبردهم ودموعهم ومرضهم!، قاوم البعض الحياة فجاءه الخلاص من عذابها بقدر الموت، لتستلم الأرض جثته جنيناً آثر أن يستريح من البرد القارس والحاكم الظالم .
في "الزعتري" يموت النازحون وتتعفن الجروح المصابة، والخيام إما تحترق وإما تغرق، يتوسع المخيم يوماً بعد آخر ليحضن الباحثين عن الأمن والحرية، كل همهم اليوم أن لا يستقبلوا الصيف القادم في "جرافانات" وخيام "الزعتريّ"، وأملهم أن يرجعوا إلى بيوتهم وحاراتهم أولاً، وأن تتحسن أحوال الغربة ثانياً، ولا يُتركوا فريسة للإهمال والاختراق والمساومة، فالحياة في مخيم "الزعتري" مثل طعم الزعتر : ... مُرّة، نعم مُرّة!.