الستر الحمراء

عزة مختار

[email protected]

حول الفراش الأبيض اجتمعت العائلة  بأكملها القاصي والداني الصغير والكبير كي يطمئنوا علي صحة الشيخ المريض تمتلئ الحجرة عن آخرها بالزائرين ثم تخلو بعد حين لتعود وتمتلئ من جديد داعين لكبيرهم أن ينجيه من ذلك البلاء

وهناك في ركن من أركان الحجرة كانت تجلس " سمية " وحيدته عيناها تدوران في المكان هنا وهناك بلهفة مقلبة النظر بين المتحدثين عسي أن تستمع إلي كلمة تطمئنها علي والدها بينما الدموع تنهمر من عينيها صامتة وقلبها يرتجف بمجرد أن تتخيل أن تكون هذه هي اللحظات الأخيرة لذلك الأب الطيب

إنها لا تتصور أن تحيا يوما بدونه لقد كان لها كل شيء .. :إن الأب الحاني والعقل الواعي المفكر والرجل الفاضل الذي يشار إليه بالبنان يجله الجميع ويحترمونه كان لها العين التي تري من خلالها الدنيا فهي لاتعرف بالخارج أي شيء عن أي شيء إلا من خلاله هو ومن ثقافته هو ومن تجاربه هو . بل إنها لم تقرا كتاب أو مجلة في حياتها إلا إذا أشار عليها هو بذلك . لا تثق بإنسان إلا إذا أعطاها إشارة الأمان لا تستطيع أن تسافر لزيارة أعمامها بالريف إلا بصحبته ليس لأنها لا تعرف الطريق ولكن لأنها لا تشعر بقيمتها كانسان ألا وهي بجواره تحب ما يحب وتعادي من يكره ..

ذلك الإنسان الذي يرقد أمامها الآن ولا يكاد يدري شيئا عن العالم من حوله طالما علمها كيف تتمسك بالحياة ما باله الآن هو يفارقها ويستسلم لقهر الموت ؟ اهكذا في لحظة واحدة يضيع الإنسان ؟ بكل خبرته وعلمه وقوته وأخلاقه وحبه للناس وحبهم له ، يذهب هكذا في رحلة بلا عودة ؟ هكذا وبمنتهي البساطة يصمت الصوت الذي طالما تكلم وصاح ويتوقف القلب وتنطفئ الآمال ويخبو نورها وتضيع الأمنيات ليصبح مجرد ذكري تتلاشي هي أيضا مع الأيام ..

يمر أمامها شريط حياتها وذكرياتها مع أبيها الراقد .. تتذكر وهي طفلة صغيرة تتعلق يدها الصغيرة بيده في الغدوة والروحة إلي المسجد وأصدقاء أبيها يداعبونها فيضحك الشيخ الفاضل ويقول إن " سمية " بألف رجل عندما يذكرونه أنها فتاة وكيف يحضرها إلي المسجد ..

تتذكر أيامها الأولي في المدرسة وكيف كان يحملها علي كتفيه فتصرخ وتقول دعني يا أبي فالأولاد يضحكون علي ، أريد أن اذهب إلي المدرسة مع زميلاتي فيأبي إلا أن يحملها علي كتفيه في الذهاب والإياب للمدرسة ..

تتذكر حين مرضها وكيف كان يسرع بالذهاب إلي الطبيب وكيف كانت لهفته وخوفه عليها

تذكرت وتذكرت ، آلاف الذكريات تحملها في قلبها ووجدانها ، وحب بلا حدود ورحمة لا منتهية وتقدير كبير لهذا الشيخ الراقد أمامها .. فكيف لها أن تتصور أن تحيا بدونه يوما ؟ وما شكل الدنيا أصلا وهو ليس بين أحيائها ؟ ولمن ستحيا ؟ إنها كانت وتشرب كي ترضيه كانت تحافظ علي صحتها من اجل ألا تقلقه عليها .. كانت تستذكر دروسها كي تحقق أحلامه هو .. لقد كانت باختصار كالمستنسخة من أبيها ..

تتذكر وتتذكر وتزداد الدموع انهمارا ويتول البكاء الصامت إلي نحيب وتتسارع  دقات قلبها بينما تنطفئ دقات قلب الشيخ وتخبو ومع زيادة الدموع ومع صوت النحيب تتوقف حياة اغلي إنسان عندها وتهدا أنفاسه وتستريح

تقع علي الأرض بينما يتوجه البعض ألي الشيخ لإكرامه وتجهيزه والبعض إلي سميه كي يساعدوها علي تحمل الموقف الصعب الذي تمر به ..

********************

جلست سمية إلي جانب أمها كي تتلقي واجب العزاء .. في وقت الصلاة تسابق إليها ملبية نداء الرحمن تصلي وتدعو لأبيها الذي طالما أوصاها ألا تؤخر صلاتها وطالما علمها الدعاء تبتهل إليه سبحانه وكأنها الوحيدة في العالم المبتلاة .. فكل مصيبة عندها بعد فقدان أبيها هينة ..

انفض الجمع وذهب كل من حيث جاء وبقيت سمية وحيدة هي وأمها الأرملة الضعيفة .. يغمرها الخوف من كل شيء .. الخوف الذي تربت عليه ونمت وشربته حتي الثمالة .. إن المجتمع بالخارج مجتمع وحوش لا يجب أن تامن علي نفسها فيه .. هكذا علمها أبوها فلا يجب عليها أن تستقل سيارة بمفردها لا يجب عليها أن تسمح لأي شاب بان يتحدث معها أو يقترب منها .. لا يجب عليها أن تثق بزميلات الجامعة  فيمكن أن يوقعنها في المحظور .. لا يجب عليها أن تجلس في مكان عام لأنها كلها أماكن ليست فوق مستوي الشبهات .. كل من يقترب منها طامع فيها .. يجب عليها أن تفترض سوء الظن بجميع الرجال إلي آن يثبت العكس وذلك إلي أن يأتيها ابن الحلال الذي يستحق تلك الجوهرة المصونة .. هكذا تربت وهكذا هي معتقداتها ..

مرت أيام وأيام وهي تفكر كيف ستنزل إلي الشارع وكيف ستذهب إلي الجامعة ؟ وفكرت ألف مرة أن تتوقف في دراستها إلي هذا الحد وتمكث في بيتها محتمية بجدرانه وبذكريات أبيها الراحل لولا صرخات أمها وتوسلاتها الضعيفة بان تكمل سمية طريقها الذي بدأته وان تكسر قيود الخوف التي كبلها بها أبوها .. ولأول مرة تتحدث الأم بهذه اللهجة ولأول مرة تتدخل في أفكار ابنتها التي أنشأها عليها ذلك الرجل الذي يحترمه الكبير والصغير .. فأين هي بالنسبة إليه ، إن غاية علمها أن تكتب اسمها وهو الذي علمها إياه ، لقد تزوج بها وهي ما زالت صغيرة لم تتعدي الخامسة عشر من عمرها كانت تنظر إليه كنظرة أمها لأبيها بكل إجلال وتقدير . وكيف لا وهو العالم الذي يتلقي علي يديه الآخرون علوم دينهم وستفتونه في كل أمر ويستشيرونه في أمورهم الخاصة والعامة . فما كانت تفعل إلا كل ما يرضيه تركز سمعها وبصرها إليه كي تتعلم منه كل ما تستطيع وهو بدوره لم يهملها بل أعطاها الاهتمام  كله كزوج يخشي الله .. علمها أمور دينها وعلمها ما لم تعلمه عن العالم المحيط بها .. كان ينفق عليها بلا بخل أو بذخ . يطعمها قبل أن يطعم نفسه ويكسوها قبل أن يكسو نفسه وعندما قرر أن يحج لبيت الله لم يفعل إلا وهي معه . انه زوج تقي نقي يؤدي لكل ذي حق حقه ، فكيف تعترض عليه وكيف تعارضه فأين فهمها من فهمه ؟ إلي أن رزقهم الله بسمية وقد وهبهم الله ناياها في سن متأخرة فكانت كالثمرة الحلوة التي جاءت لتبهج حياتهم وتجعل لها معني جديدا .. وبدأت الثمرة في النمو وانتهجت الأم نفس النهج الذي أخذته مع نفسها حين ارتبطت بزوجها . تركت أمور التربية والتوجيه للأب العالم بكل شيء الواعي بكل الأمور التي لا تدريها هي ولكن ..

كانت تلك الثمرة الطيبة تنمو أمامها شيئا فشيئا فيهش لها قلبها وبطرب وتري فيها أحلاما ما عرفتها يوما إلا مع نمو ابنتها الحبيبة ..

العلم الذي كان ينهل منه الزوج كل يوم الكثير والكثير كل يوم حين كان يختلي بكتبه الضخمة .. أحيانا كانت تأتي بالكتاب وتنظر فيه وتحاول فك تلك الطلاسم فلا تستطيع وحينما يراها زوجها يضحك ويداعبها بكلمات رقيقة فتقول له إنني أنظفه من التراب .. طالما حلمت أن تقرا تلك الجريدة التي كان يحضرها كل يوم وتتحدث معه وتناقشه مثلما يفعل مع أصدقائه .. لكنها كانت تعجز حتي أن تفهم كلماته التي كان يتمتم بها في تعليقه علي الأخبار بعد الفراغ من قراءتها .. طالما أمسكت بالقلم بين أصابعها وتحاول إن تنقل من أي كتاب إلي صفحة فارغة وتنظر إلي كتابتها بإعجاب وهي لا تدري ما هي .. كل ما كانت تستطيع كتابته هو اسمها والذي طالما ملأت به صفحات وصفحات وهي فخورة كل الفخر بأنها هي التي كتبت هذه الصفحات .. وعندما التحقت سمية بالمدرسة طالما جلست إلي جوارها حينما كان أبوها يراجع لها دروسها ناظرة إلي ابنتها نظرتها إلي الفاتحين العظام تشجعها بالكلمات حينا وتصفق لها بيديها أحيانا وتهلل عندما يقول لها أبوها أحسنت يا حبيبتي ..

هكذا كان الحال مع ابنتها وزوجها لم تعترض يوما ولم تتفوه بكلمة ضجر ولم تبدي أي ملاحظات .. واني لها ذلك وهي تري كل ما يفعله صواب .. إلي أن  ذهب في رحلة اللاعودة ووجدت ابنتها تتراجع عن الطريق والخوف يستبد بها فكان لا بد لها من أن تصرخ وتقول لا .. لا للتراجع لا للعودة للخلف ولو قيد أنملة حتي حاولت سمية استجماع شجاعتها وارتدت السواد والذي زادها بهاءا علي بهائها وذهبت في طريقها

********************

لأول مرة في حياتها تنزل إلي الشارع وتسير فيه وتشعر أنها وحيدة بهذا الشكل  . تشعر وكان سدا منيعا كانت تحتمي به قد انهار ، تنظر بطرفها خفية إلي من حولها فربما يحاول احدهم أن يعتدي عليها أو ربما ينظرون إليها نظرة مريضة أو ربما يتحدثون عنها بمجرد أن تتعداهم .. ورغم أن الشارع كان مليئا بالمارة كلمنهم مشغول بحاله وهمومه فما أبقت هموم الدنيا لأحد وقت كي يفكر بالآخر إلا أنها كانت تعتقد إنها فريسة ضعيفة ووحيدة لقطيع من الذئاب ..

وقفت في محطة الانتظار كي تأخذ وسيلة مواصلات إلي الجامعة صوت أبيها في أذنها إياك أن تستقلي سيارة بمفردك .. دست نفسها في حافلة حتي وصلت إلي الجامعة .. هناك تنتظر المحاضرة في قاعة الدرس ر تلتفت يمنة أو يسرة . تركز عينها علي الأستاذ وتكتب كل كلمة يقولها بل ربما كتبت أكثر مما قاله .. في نهاية المحاضرات تأخذ اقصر طريق ألي البوابة الخارجية وتستقل حافلة وتعود ..

مر اليوم الأول لها  في حياتها الجديدة علي خير .. عندما وصلت إلي بيتها تنفست الصعداء وجرت إلي حجرتها محتمية ببابها المغلق وجدرانها السميكة .. وقفت أمام المرآة تتحسس نفسها وكأنها تطمئن إلي أنها لم ينقص منها أي شيء .. لمعت عيناها فها هي تعود من الجامعة وحدها منتصرة لم يمسسها سوء ..

ابتسمت لامها لأول مرة منذ رحيل أبيها وجلست إليها تحكي لها كل التفاصيل من لحظة خروجها لحين عودتها سالمة بفضل الله ..

في اليوم التالي خرجت وهي علي نفس التوجس والريبة ولكنها بدأت تشعر بان شيئا بداخلها بدأ يتكون .. مخلوق جديد بالنسبة إليها .. شعرت بلذة شديدة وهو  يتنامي بداخلها شيئا فشيئا . هذا الجنين كان اسمه " الثقة "  شعرت به يكبر يوما بعد يوم . وبدأت تتوالد معه أشياء أخري أمال وأمنيات , وكلما وجد أمل تباعدت ذكري وكلما خرجت يوما تنامت الثقة وكثرت الآمال والأمنيات

خرجت سمية من الجامعة تنظر إلي الفاترينات بانبهار شديد بعدما كانت تخجل من النظر إليها قبلا ، تسير في شوارع القاهرة العريقة وكأنها تراها لأول مرة ، الجديدة منها وحتى القديمة تذهب إليها وكأنها تنسم منها رائحة التاريخ الذي طالما عاشت بين طيات كتبه وها هي تراه رأي العين بين جدران قلعة صلاح الدين وأحياء الحسين والسيدة زينب حينا والمتاحف التاريخية أحيانا .. كانت كلما سارت خطوة كأنها تعبر إلي المستقبل خطوات وخطوات

تعلمت الكثير في فترة وجيزة وازدادت جرأة وازدادت تعلقا بالحياة وباستكشاف أسرارها .. ربما تكون قد أحبتها أكثر رغم وحشتها . ربما تكون قد انبهرت بها وبأضوائها .. المهم الآن أنها تنظر إليها نظرة أخري غير التي ورثتها وتراها بعين أخري غير تلك التي كانت تراها بها .. كل ذلك كان يحدث بتشجيع من والدتها والتي كانت فخورة بابنتها كل الفخر وسعيدة بها أيما سعادة لأنها أخيرا استطاعت أن تعتمد علي نفسها وتواجه المجتمع دون خوف أو تردد

اهتمت سمية أكثر بمظهرها الخارجي فأصبحت بحق فتاة كاملة خلقا وخلقة . أصبحت تطربها تعليقات زميلاتها علي تناسق ملابسها وعلي ذوقها الراقي في اختيار ما يليق بها دون تخلي عن حجابها آو شروطه التي فرضها الله ..

تعددت اهتماماتها بعدما كانت فقط مركزة في الدراسة وبرغم ذلك لم تهمل دروسها بل ظلت متفوقة كما هي وربما تقدمت أكثر ، وظلت تحوز علي رضا وثقة أساتذتها ..

انتهي العام الدراسي وانتهت سمية من دراستها الجامعية واستطاعت أن تحصل علي المركز الثاني علي دفعتها بجدارة وكان يوم فرح كبير لها ولامها .

اجتمع الجيران والأحباء مهنئين ومتمنين لها دوام التوفيق في حياتها العملية .. أما والدتها فقالت إن الله أكرمك يا بنتي وحقق فيك حلم أبيك والحمد لله ولم يعد سوي أن يرزقك الله باين الحلال الذي يسعدك وساعتها فقط تكتمل فرجتي واطمئن عليك وأكون قد أكملت رسالتي معك .. فتبتسم سمية وتقول يا أمي إن ما حققته ليس إلا بداية الطريق إنني ما زلت علي الدرجة الأولي علي سلم النجاح وما زال الطريق أمامي طويل كي أصل إلي ما أريد .. إن أحلامي كبيرة يا أمي ولن أتراجع ..

وكأنها كانت تقرا ما خلف الحجب فسرعان ما التقت بالتحدي الأول لها ف حياتها العملية ، فبعد أن كانت تأمل في أن يتم اختيارها للتعيين في الجامعة كمعيدة تحركت أياد غبية لتنزع منها ما هو حق لها وتضيع عليها هذه الفرصة الرائعة والتي كانت ستفتح لها آفاق واسعة للحصول علي مزيد من العلم الذي تعشقه عشقا .. ومع هذا الفعل الإجرامي كاد يزلزلها ويحطم كيانها إلا إن إيمانها القوي بالله وبأن هذا قدرها ورزقها وبأن ما أصابها لم ليخطئها وما أخطاها لم يكن ليصيبها ثم إيمانها وثقتها بقدراتها العالية علي تخطي الأزمات والصعاب وبأن الإنسان يستطيع بإيمانه أن يحول الهزيمة إلي نصر إذا أراد والضعف إلي قوة ويتحدي كل الصعاب ويحولها إلي فرص للنجاح .. كل ذلك ساعدها علي تخطي تلك الأزمة وان تتعداها لتضع البدائل لهذه الفرصة الضائعة وقالت لئن حرموني منها فلا احد يستطيع أن ينزع العزيمة من قلبي ولن يحول أي شيء دون الحصول علي ما ابغي من العلم وبكل الوسائل الممكنة .. وفعلا قررت أن تستمر في الدراسة وكن ليكون ذلك إلي جانب العمل ، فما الحياة إلا مدرسة كبيرة نتعلم فيها ما لا تعلمه المدارس والجامعات .

********************

يبدو أن أسوار الجامعة تعمل كحاجز كبير بين حياة وحياة وشتان ما بين الحياتين ، بل إنهما عالمين مختلفين تماما .. إن عالم الجامعة والذي كانت تخشاه يوما وتمنت أن تنتهي منه أصبح الآن يمثل العالم الملائكي بالنسبة لما يتعدي حدود أسواره        , إن أقصي ما يشغل الطلاب فيه إما النجاح والحصول علي أعلي تقدير بما يضمن لهم الحصول علي وظيفة محترمة ومستقبل مرموق وهذا حلم المتفوقين منهم وأما البعض فكان يتمني فقط انتهاء العام الدراسي علي خير وبعدها يوجد ألف حل , وآخرون بين هؤلاء وأولئك يتركون كل شيء للظروف وما توجههم إليه الأقدار , حتي أولئك الفتيات اللاتي كانت تنظر إليهن نظرة رثاء ولم يشغلهن سوي أن ينتهين من الدراسة حتي يتزوجن وينتقلن إلي تلك الحياة السعيدة التي يحلمن بها ... هذا العالم الآن بما يحويه من أحلام وطموحات هو عالم بريء براءة الطفولة بالنسبة لما لاقته خارج أسواره

انه سوق كبير , وربما لم تبالغ حين صورته لإحدى صديقاتها بأنه سوق نخاسة .. إما أن تكوني جارية وإما أن تكوني ملكة , كل شيء هناك مباح فالنخاسون يريدون البيع بأغلى ثمن واقل خسائر .. إنها تلك الستر التي حذرها   منها أبوها يوما حين قال لها إياك أن تغتري بالوجه المكشوف فخلفه وجه كالح وإياك أن تغريك الستائر الحمراء فخلفها طرق ملتوية طرق ملتوية فلتنظري جيدا تضعي قدمك وإياك أن تتجاوزي تلك الستر فخلفها الهلاك والضياع والنهاية الحتمية

نزلت تبحث في سوق العمل هي ومجموعة من زميلات الجامعة ممن جمعتهن نفس الأهداف والأخلاق ، كانت تحمل معها شهادة التفوق إلي جانب طموحات شابة قررت أن تتحدي لتبني .. تتبعت إعلانات الشركات في الجرائد اليومية ولم تترك فرصة إلا وذهبت ,, وهناك تفاجأ أنهم لا يريدون موظفة وإنما يريدون جارية . إن مظهرها غير لائق ، نعم هي متفوقة وعندها مقومات الموظفة الناجحة لكن لو تنازلت قليلا لأمكنها أن تربح الكثير .. هناك وجدت البعض يتساقطون ، يهتكون الستر ويغترون فالحجاب يمكن أن يرفع قليلا ، انه حكم المضطر . والثوب حبذا لو تقلص بعض الشيء فلن يأكلها أحد , ثم أن في الدين فسحة , ثم إنهم إذا قارنوا أنفسهم بالغير لصاروا كالملائكة ، ثم إن الظروف الحياتية صعبة وليس من المعقول أن يقضين بالجامعة أربع سنوات أنفقن فيها دماء آبائهن ويضيع كل ذلك سدي ..

نعم والله إنها لستر خداعة إذا رفعت إحداها وانزلقت إلي الأخرى تجد نفسك أخيرا في طريق مظلم وبلا عودة ... لقد رأت بأم عينها , رأت النخاسون يتهافتون عليهن تهافت الذباب علي حلوي مكشوفة .. ورأت الحقائق تقلب وسمعت من يدافع عن العري والتكشف باسم الحرية وباسم الثقة بالنفس وباسم الحقوق ، وفي الحقيقة أنهم يدافعون عن إماء في سوق نخاسة .. رفضت الخضوع لقوانين ذلك السوق وقررت أن تكون ملكة والملكة ليس مكانها أبدا في سوق  يباع فيه كل شيء حتي الأعراض .

عادت إلي بيتها ولم يؤثر في عزيمتها شيء بل قررت الاستمرار ولكن مع تغيير الاتجاه بعض الشيء ليستقيم والحق الذي تؤمن به . ولن تطالب أحد بحقها بل ستأخذه هي بنفسها ، ستعلمهم كيف تكون حرة بلا تنازلات وإسفاف , تعلمهم معني الحرية التي ارتادها الله عز وجل لنا وستتعلم في نفس الوقت ولن تسمح لسارقوا الأحلام بأن يوقفوها . كانت كلما قابلت في طريقها حجر عثرة صممت أكثر علي مواصلة الطريق وثبتت وكان هدفها لن تمهد لأجيال بعدها ذلك الطريق الشاق وأصبحت صاحبة رسالة , كل يوم تتضح لها معالم الطريق أكثر , هي لم تعد تدافع عن قضيتها أو قضية جيلها وحسب ، إنما أصبحت تدافع عن قضايا امة ومستقبل شعب . بل شعوب بأكملها في عيش كريم وحياة فاضلة ، لم تترك بابا يمكن أن تقوم من خلاله بالإصلاح إلا وفتحته ، اشتركت فترة في منظمات حقوق الإنسان وعملت مراسلة لبعض الصحف الهادفة ، واشتركت في التظاهرات المطالبة بالحرية والإصلاح وقامت بمجهودات كبيرة في بعض الجمعيات الخيرية .. أصبحت بحق صاحبة رسالة . ناقشت أخيرا رسالة الماجستير وكان موضوعها " الاقتصاد الإسلامي من النظرية إلي التطبيق " واجتازتها بتفوق وعن جدارة .

بعدها استطاعت الالتحاق بالصفحة الاقتصادية في احدي الصحف ، وهناك أتيحت لها الفرصة للتعرف أكثر علي تلك المؤسسات والشركات الكبرى وكيف تدار . ويبدو أنها تعدت بعض الخطوط الحمراء مما عرضها لبعض المضايقات من داخل الصحيفة وخارجها وأكثر من مرة تتعرض للوقف من العمل بسبب ضغوط خارجية عليهم .

وفي هذه الأثناء كانت والدتها في غاية القلق عليها ، فها هي السنوات تمر وابنتها مصممة علي أن تكمل ما بدأته وأضاعت من بين يديها فرص متعددة للزواج وكان كل منهم لا يخير عن الآخر ـ من وجهة نظر الأم ـ لكنها كانت ترفض كل مرة بحجة انه ليس هذا من يناسبها فلم يكن منهم من يحمل قلبا مثل قلبها ، قلب يحمل هموم العالم كله ولم يكن منهم من يحمل رسالة كتلك التي تحملها وفي هذه الحالة فبيت أبيها خير لها من زواج يمكن أن يكون عائقا عن أداء دورها في الحياة ..

وازدادت الأم قلقا عندما تخطت ابنتها الثلاثين ربيعا ، والأيام تمر وكل ما يشغل بال ابنتها الوحيدة هو إتمام رسالة الدكتوراة والكتابة علي صفحات الجرائد والعمل في الجمعيات ونسيت إن كمال حياة الفتاة في أن يكون لها بيت وتنجب أطفال يكبرون بين يديها ويكونوا قرة عين لها ، ثم إن أكثر زميلاتها قد تزوجن وأصبح لدي كل منهن طفل وطفلين . لم يعد لوالدتها حديث معها سوي في هذا الموضوع فكلما همت بالخروج ذكرتها به وكلما عادت من الخارج فاتحتها فيه إلي أن قالت سمية لها صدقيني يا أمي إنني لا ارفض المبدأ وإنما لا أريد إن أتزوج واندم بعد ذلك وعموما بمجرد أن ينتهي من بعض المشكلات التي أنا بصددها اعد أنني سافر جديا في هذا جديا في هذا الأمر وسأكون طوع أمرك .

أما المشكلات التي تحدثت عنها سمية فقد كانت بشأن مقالة كتبتها عن الغش التجاري وأساليبه وشارت فيها إلي احدي الشركات مما دفع صاحب هذه الشركة للاتصال بالجريدة  والتهديد برفع قضية ما لم تنشر اعتذار ، فطلب منها ذلك لكنها رفضت لان ما كتبته حق وجميعهم يعلمون ذلك فكيف تعتذر عن شيء هي علي حق فيها ومعها ما يثبته حتي أنها فضلت أن تترك العمل نهائيا مع أنها تألمت كثيرا للظلم الواقع عليها .

لم تستطيع النوم في هذه الليلة لا تدري ماذا تفعل . هل تسكت عما حدث وتبحث عن عمل في مكان آخر وأي جريدة تتمني العمل معها بعدما أصبح لها اسمها المعروف في مجال عملها وبعدما أصبحت تعمل كمستشارة في فنون التسويق لبعض الشركات المعروفة ، آم تتمسك بحقها وتفوت الفرصة علي أصحاب النفوذ والسلطان في الإطاحة بها .

حاولت أن تتصل ببعض من تعرفهن لتأخذ رأي إحداهن ولكنها تراجعت إلي أن تذكرت أستاذها المفضل في علم الاقتصاد واتصلت به  كي تستشيره فيما تفعله وكيف تواجه هؤلاء الحيتان حتي طلب منها أن توافيه في مكتبه في تمام العاشرة صباحا حتي يتسنى لهما بحث تلك المشكلة وحلها

وفي تمام الموعد كانت هناك ........

********************

التقت به بعد كل هذه الأحداث التي مرت بها وكأنها السنوات العجاف التي كانت تنتظر الغيث ، رأت فيه الكثير مما كانت تحلم به ، بل رأت فيه كل شيء ، ربما كانت فيه صورتها الباحثة عن حقيقة الدنيا التي لم تعرفها بعد ، صورتها الباحثة عن الحب الذي يهدي الحياري والتائهين ويشفي القلب الجريحة والمريضة ، الظالمة والمظلومة ، الباحثة عن العدالة في الطرق الضالة .

وربما وجدت فيه صورة والدها الراحل بوقاره وحلمه وعلمه أسلوبه المهذب وطيبته الفطرية .

كانت مشاعرها تجاهه كالسيل الجارف كأنها خبأتها طوال تلك السنوات له هو . كانت تتعجب عندما كانت وهي في المرحلة الثانوية من همس الفتيات ومغامراتهن العاطفية فهذه تعشق أستاذها وتلك تهيم بجارها وأخري مفتونة بمطرب الشباب وكانت إحداهن تذوب شوقا لذلك الفارس الذي سيأتيها علي حصانه الأبيض وبالطبع انته عصر الحصان فيمكن أن يستبدل بسيارة فارهة احدث موديل وغيرها الكثير من الحكايات كانت تستمع إليها وتتعجب كيف تواتيهن الجرأة علي التصريح والاعتراف بهذه المشاعر ..

أما هي فكانت تنظر من اعلي برج العلم والأخلاق . برج وضعها فيه أبوها وصنعه خصيصا من اجلها ، كانت تحلم بفارس الأحلام فهي في النهاية فتاة ولكنها ليست ككل الفتيات فحتي هذا الحلم لم يدعها والدها تحلمه وحدها , بل ضع شروطا وموازين ومقاييس لا يمكن التنازل عنها لذلك الفارس المنتظر ، وكيف لا وهي الجوهرة المصونة فان كان الناس يتفاضلون بالعلم والعقل لرجحتهم ، إن كانوا يتفاضلون بالجمال لسبقتهم ، وان كانوا يتفاضلون بالنسب لأخرجتهم من حلبة السباق .. فكيف لا تضع الشروط التي تضمن لها من يكون في نفس مكانتها أو يضاهيها شرفا وعلما ونسبا وخلقا ..وذلك ليس من باب الكبر ابدأ وإنما هو من باب تقدير الذات واحترامها لنفسها ، فأباها يعرف قدرها جيدا فهي أولا وأخيرا صنيعته التي شكلها بيديه ، إنها حقا بنت أبيها .

فما بالها اليوم تتبدل ويتغير حالها مع ذلك الذي اسر قلبها ؟ وما هذا الشوق الجارف والذي يكاد يحطم قلبها من شدة طرقاته عندما يتغيب عنها ولو ليوم واحد ، كانت كثيرا ما تغلق علي نفسها باب غرفتها وتبكي بكاءا مرا اذا تأخر دقائق معدودات عن موعدها  ، تعلقت به أكثر من أي إنسان آخر علي وجه الأرض انطلقت بأحلامها معه تارة تبني عشهما السعيد وتراه تحلق في سماء البلدان تطوي المسافات والمسافات مسافرة معه بعيدا عن كل ما يمكن أن يكدر صفو حبيبين ليس لدي كل منهما سوي الآخر في الدنيا كلها ..

كانت وهي معه تشعر أنها تمتلك الدنيا وما فيها ، لا تفكر فيما مضي ولا فيما هو آت ، كل ما يهمها هو تلك اللحظة الحاضرة التي تجمعهما .. وعندما يغيب تشعر بالاغتراب حتي وهي مع أمها وفي عقر دارها . تحس بالغربة والوحدة والتيه ، حتي إنها كثيرا كانت تتساءل كيف عاشت عمرها من قبله وكيف مرت تلك السنوات التي لم تجمعهما .. قالت له يوما أنا احسد الشارع الذي تسير فيه ، احسد الجيران الذين يرونك كل يوم مارا عليهم ، احسد الطلبة الذين تحاضرهم احسدهم جميعا علي وجودك بينهم ، بل إنني أحيانا أود لو سرت في كل مكان كنت فيه يوما  كي أري بعيني ما رايته أنت وأحب ما تحب وأتنسم نفس العبير الذي داعبك ، كان يبتسم لكلماتها ويطرب لها ويزداد بها تعلقا وحبا ، بل كان يهيم بها حبا .

كان يهاتفها يوميا وفي بعض الأحيان المتاحة يذهبا معا للاطمئنان علي سير العمل في عشهما المنتظر وكثيرا ما عرضت عليها والدتها أن يمكثا معها في بيتها فهو بيت واسع ومريح وطالما وسع الكثيرين في مجالس علم ومناقشات بين أبيها وأصدقائه فلم لا يتسع لابنتها وزوجها خاصة وقد كانت تنظر ذلك اليوم من زمن طويل ؟ ولكنها رفضت ذلك العرض وأصرت أن تحيا حياة مستقلة مع زوجها ، وليس معني ذلك أنها تتخلي عن أمها ولكنها أرادت أن تنفلت من تلك الدائرة التي احتوتها سنوات طوال .

قاما سويا بتجهيز كل ركن فيها بما  لا يتناسب وذوقاهما معا  . يتخاصمان أحيانا ويتصالحا في نفس اليوم لا يفرقهم إلا الليل وحتي هذا لم يقدر علي التفريق بينهما فكانا يكملان أحاديثهما هاتفيا وأحيانا كانت تمتد تلك الأحاديث حتي الصباح ولا تنتهي إلا بوعد بلقاء واتفاق علي موعد ... التحام تام بين روحين وتوحد بين قلبين واندماج كامل بين حياتين ، هكذا كان حالهما معا .. حين يتخاصمان يمر يوم أو يومان ولا يحادثها فتبادره هي بالاتصال وهي تصرخ إياك أن تقاطعني وان كان يجب أن تعاقبني فبأي شيء  سوي المقاطعة  فيقول حاشا لله أن أفكر في أن أعاقبك أو أهينك إنما أردت معك أن أكون إنسان في كامل إنسانيته علاقتنا إنسان حر بإنسانة حرة فكيف لي أن أعاقبك ؟

كانا أحيانا يختلفان في جهة النظر في حل المشكلات خاصة وان اهتماماتهما متعددة ومتشعبة فهما لا يحملان في قلبيهما هموم اثنين إنما يحملان معا هموم امة بأكملها ، هموم الناس كل الناس ..

فكان يري أن مشكلة الأمة في عدم تطبيق المنهج الرباني الكامل وإننا لو طبقناه كما انزل ستنتهي كل مشكلاتنا وانه يجب علينا نحن المثقفون والمفكرون ومن يحملون هموم هذا الوطن أن نتكاتف جميعا ونبدأ بأنفسنا في تطبيق هذا المنهج ولا ننظر إليه باعتبار أن فيه صغير وكبر وإنما كل ما فيه هام وكل ما فيه يجب تطبيقه ابتداءا من الابتسامة في وجه الغير وانتهاءا بعلاقتنا بدول العالم

أما هي فكانت تقول له أن مشكلتنا هي الانتماء , فلا احد يشعر أن دينك دمك وعرضك ولا احد يشعر بان وطنك أمك وأبوك ثم يتطرق الحديث إلي أن ينتهي بنقطة التقاء واتفقا علي أن الناس لو شعروا بهذا الانتماء لطبقت المنهج تلقائيا ..

قالت له يوما أن الانتماء الذي اشعر به تجاهك يجعلك تشعر انك دائما مع من تحب لأنه بداخلك وأنت بداخله كلاكما جزء من الآخر وكلاكما مكمل ومتمم للآخر بل إنني تجاوزت هذه المرحلة إلي مرحلة أخري وهي الاندماج الكامل أو الذوبان ففي هذه المرحلة لا تعرف حدودك من حدود الآخر ، بدايته عندك ونهايتك عنده ، حينها تهدأ الأرواح وتطمئن حتي لو فرقت بينهما الأيام .. إن هذا ما أحس به نحوك ..

طالما حلقا معا في عالم الحب عالم بلا أشواك بلا أحقاد بلا خوف بلا عيون تترصد ، عالم صنعاه معا وعاشا فه سويا ، عاشا في أحلامهما كيان واحد وهوية واحدة حتي أنهما اتخذا نفس الملامح ونفس الرائحة ونفس الملمس ، كانت تتناثر كلماتهما معا فوق مروج خضراء فتنبت ابتسامات وردية كلمات عذبة عذوبة ماء النيل قبل آن تلوثه الأيادي الشريرة  آما ابتساماتهما فكانت صافيه صفاء الجدول الرقراق  هادئة كماء الخليج دافئة دفء شمس الشتاء في يوم صاف جميل ، وأما النظرات فكانت من عيون تلمع بالبراءة والأمل في غد اللقاء .

إلي أن هبت عليهم ريح الشر وجاءت معها بسحابة سوداء فغابت شمس الحب وأظلمت الدنيا وضاع الأمان وتساوي كل شيء بعدما ضاعت حتي معالم الطريق .     

********************

فتحت  عيناها ببطء بينما  لازالت تشعر بالدوار ، تنظر يمنة ويسرة فتري أشباحا تتحرك وأصوات بعيدة بعيدة لم تستطع أن تميز بينها ، تحس أن شيئا ثقيلا فوق كاهلها وكأن صخرة كبيرة تجثم فوق صدرها ، بالتأكيد هي تحلم حلم مزعج ، بل كابوس مرعب ، تحرك يديها وكأنها تحاول أن تبعد عنها أشباح تدور حولها ، أو تحاول الاستيقاظ من ذلك الحلم البشع والذي في النهاية لم يكن حلما .

بدأت تفيق شيئا فشيئا حتي هبت من رقدتها صارخة  : لا ، لا أنت كاذبة ، ماذا تريدين مني ومن أنت ولماذا تفعلين ذلك ؟

فتهدئها أمها بينما تقف علي استحياء امرأة لا يبدو عليها أنها من ذلك النوع الذي يقوم بتلك الخدع ، تقبل عليها قائلة سامحيني فوالله ما قصدت إيذائك ولكن هذه هي الحقيقة إن أردت أن تعرفيها " إنني زوجته " ، انخرطت هي الاخري في البكاء بينما استعادت سمية بعض هدوئها وكفكفت دموعها واعتدلت في جلستها وتوجهت بكل كيانها إلي تلك المرأة الواقفة أمامها وقالت لها اجلسي ومن فضلك احكي لي كل شيء أنا الآن مستعدة لسماعك ،

جلست أمامها وبدأت هي الاخري تجفف دموعها التي بدأت تغلبها مرة ثانية وتقول : انه ابن عمي تربينا في بيت واحد هو بيت جدي وبيت العائلة كلها ، نشأنا معا وكبرنا معا ، ذهبنا إلي المدرسة سويا لكن مستواه الدراسي كان اعلي مني فسبقني وافترقنا عند الإعدادية وتوقف تعليمي عند الحد المتوسط واهتمت أمي بتعليمي بكل أمور البيت من غسيل وطبخ وتنظيف حتي أتقنت كل تلك الأمور ، أما هو فكان يتقدم في دراسته يوم بعد يوم وعام بعد عام وكلما مر عام ازدادت المسافة بيننا ، أما أهلنا فكان لهم رأي آخر خاصة أمي التي غرست في قلبي وعقلي إنني لابن عمي وابن عمي لي ، وانه ليس مهما فق التعليم فالرجل لن يتزوج كراسة ولا كتاب وإنما يريد امرأة تحسن إطعامه وتدبير شئونه وتربية أولاده ، كبرنا وكان كل همي أن اشغل باله بطبق جديد أعده له عندما يأتي من الجامعة في إجازاته ، بدأ الخطاب يطرقون باب أبي وهو يرفض وأمي تتذمر ، تلمح أحيانا وتصرح أحيانا مما دفع  عمي لأن يقرأ الفاتحة مع والدي دون حتي انتظار عودة ابنه من الجامعة في إجازته وحتي بدون علمه ..عندما عاد فوجئ  أنني قد خطبت له ، اذكر يومها انه قد بكي  ، نعم بكي فلم يستطيع أن يقول ربيه لا ، اعلم جيدا انه لم يكن يخاف أباه ولكنه كان يحترمه احتراما شديدا ويقدره تقديرا كبيرا ، كان يعرف لأبويه حقوقهما مثلما لم أري بر إنسان بأبويه من قبل ، بكي لكنه لم يستطيع أن يقول لا .. وساعتها ماتت فرحتي في قلبي وانكسرت نفسي ، لكن آمي سامحها الله وقفت لي وقالت انه في النهاية  لن يكون إلا لك أنت وستملئين عليه حياته عندما يتم الزواج وسينشغل بهموم بيته وسننسي  كل تلك الأمور الصبيانية ، إن ابن عمك إنسان طيب ويعرف الله ولن يظلمك أبدا ، وفعلا هدأت نفسه بعد وقت وكأنه استسلم للأمر الواقع ومع أننا لم تكن تجمعنا جلسات كأي اثنين  في فترة خطوبة إلا أنه أحيانا كان يحضر لي بعض الكتب والمجلات  ك أقرأها وكنت كثيرا ما ألقيها جانبا ولم أكن أعرف أن هذا يزيد الهوة بيني وبينه وبدأ طبعه يتغير ويتحول إلي الحدة  ، ذلك الإنسان الطيب المبتسم دائما يصبح حادا هكذا ؟ وقد كان قبل أن يخطبني له أبوه كأفضل أخواني لي ؟ ما الذي حدث ؟

المهم مرت الأيام وتخرج من الجامعة وتسلم عملا في احدي المدن القريبة لقريتنا ، وبأمر أبيه وأبي تزوجنا ، وفي حدود إمكانات أبوينا وانتقلت للعيش معه حيث يعمل ، أحمل عي نصائح أمي بالطاعة العمياء لزوجي ، اياكي أن تقولي له لا ، اياكي أن تناقشيه في أمر ، ناياك أن ترفعي صوتك أمامه ، البنت الواعية تعيش ولو في النار ولا تشتكي لا يشعر بها أحد ، بنت الأصول تتحمل حتي النهاية ، احفظي سره حتي عني ، اسهري علي راحته ، أعطيه حقه قبل أن يطلبه .. مضيت معه وأنا أحفظ تلك النصائح وعازمة كل العزم علي تنفيذها بل وأكثر منها .. عشت معه وقابلتنا صعاب كثيرة كأي اثنين في بداية حياتيهما ، تحملتها معه ولم اشتكي لأحد ولم أشعره يوما أني ينقصني شيء .. سهرت بين يديه وهو يذاكر العام بعد العام ويكبر ويزداد علما وأنا كما أنا ، كل همي في الحياة أن أوفر له الراحة ولا أحمله ما لا أطيق .. لم أختلط بالجيران حتي  لا يزوروني فيتضايق ، كان اذا مض سهرت عليه كأنه ابني لا زوجي ، عرفته صغيرا وعرفته كبيرا ، رايته تلميذا ورايته استعاذا ، فرحت معه بأول مرة أقبل الجريدة وأضمها إلي صدري كالوسام وأنا فخورة به مع أنني لم أحاول مرة أن أقرأ ما هو مكتوب فوق الاسم لأنني أعلم جيدا أنني لن افهمه فهو لم يقرأه لي يوما ولم يفكر حتي أن يفهمني ما يكتب وأنا بدوري كنت أخشي أن أعطله أو أضايقه فأكتفي بالنظر إليه وهو يكتب أو انتظر إشارة منه بإعداد كوب الشاي الذي يحبه ..

وهبته عمري كله لم أعش لنفسي يوما ، اذا رضي هو أو سعد أو حتي ابتسم لي مجرد ابتسامة ضحكت لي الدنيا كلها وأقول ماذا أريد أكثر من ذلك ، زوجي يحترمه ويقدره كل الناس وهو إنسان طيب ويعاملني أحسن معاملة ولا يبخل علي بما في يده فماذا ينقصني ؟

أنا أول امرأة يعرفها وهو أول رجل عرفته ، أنا من حملت همومه ، أنا من كتمت أسراره ، أنا من كبر بين يدي يوما بعد يوم وعاما بعد عام ، أنا من تحملته في ضرائه وفرحت لسرائه شاركته أفراحه وأتراحه أنا من سهرت الليالي الطويلة بجواره ، أنا من رأيت دموعه وأنت تعرفين معني أن يبكي الرجال ويظهروا دموعهم أمام أحد ، فكيف بعد كل ذلك يكون لغيري ؟ كيف بالله قولي لي تأتي من تشاركني فيه ، أنا ما قصرت في حقه يوما أنا ما خنته ، أنا ما عارضته مرة واحدة في حياتي ،فكيف يكون لغيري ؟

وضعت سمية يدها علي أذنيها ولم تعد ترغب في سماع المزيد فصمتت الزوجة لحظات ثم قالت وها أنا ذي أضع حياتي بين يديك فلتتصرفي كما تشائين وبما يمليه عليك ضميرك . واستأذنت وانصرفت .

********************

هل يمكن أن تكون الدنيا هكذا ؟ عنوانها الكذب والخداع . تغرينا  وتخفي عنا وجهها القبيح خلف تلك الستر المخملية الحمراء بينما تنصب لنا الشراك خلف تلك الستر حتي اذا وقعنا فيها نهشتنا مخالب من كنا نحسبهم أحبابنا ، من كنا نبيع الدنيا من أجلهم ، من كنا نحسبهم البراءة ذاتها ، من سلمنا لهم أحلامنا ، بل من حلمنا من أجلهم ؟ تكون هذه النهاية ؟ وبهذا الشكل المهين ؟ لطالما استكثرت تلك الفرحة علي نفسي وها هو الفراق يتلاعب بي بأشباحه قادما من بعيد ثم ها هو يقترب تجاهي تحمله سحب سوداء مخيفة .

الفراق ، ما أبشعها من كلمة ، كيف لا أجرؤ علي النطق بها مع أنها واقع لا محالة ، كيف لا يقدر قلبي علي تحملها ولا عقلي علي تقبلها . يا ويحي ماذا أفعل من دونه لقد أحببته مثلما لم أحب من قبل وما زلت أحبه بل ما زال حبه يزداد كل لحظة عن سابقتها ، ثم أنني أنا أيضا زوجته ، فلماذا فعل ذلك ؟ لماذا لم يصارحني بحقيقة وضعه ؟

أتذكر الآن أول مرة تحادثنا فيها  ـ تبتسم سمية ـ آه ما أجملها من أيام ، أن أجمل لحظات العمر تلك التي يولد لنا فيها أشياء جميلة لم تكن بيننا من قبل ،اتصلت أنا به كنت متضايقة جدا من تلك الأحداث التي مرت بي كان بداخلي صراع كبير وثورات عارمة وأحاديث كثيرة ولقد حرمت ممن يسمعني ، وبحثت بخاطري عن صديقة يمكن أن اتصل بها وتذكرتك ووجدت يدي تمتد وتطلب رقمك أنت ، فلم أنت ولم فكرت بك ؟ لست ادري وكأننا كنا علي موعد مع القدر وكأن كل منا كان ينتظر الآخر ، تحدثنا كثيرا ولم ينتهي الحديث لم تنتهي الحكايات ، كنت اطرب لسماع صوتك وكأنني استمع لأجمل لحن وكنت  اشعر برعشة السعادة في صوتك عندما اتصل بك ، شعرت بكائن جديد بيني وبينك ولقد كان اسمه الحب ، الحب الطاهر الذي لا يري له سبيلا سوي الارتباط الشرعي علي المنهج الذي ننتمي إليه فهل انهي كل ذلك الآن واطوي هذه الصفحة إلي الأبد أبدا صفحة جديدة خالية من المشاعر والأحلام أم يجب علي أن اسميها الأوهام ؟

هل يتحطم صرح الثقة الذي بنيته ؟ الثقة في نفسي والثقة فيمن حولي ؟ أم انتظر حتي اسمع دفاعاته ؟

وأي دفاع سيجده ؟ وأي كلمات يمكن أن تبرر  ذلك الخداع الكبير ، أبدا والله لن سامحه أبدا ولا يمكن أن استمر في تلك المهزلة ، فانا إنسانة ، إنسانة خلقت لكي تبني وتعمر لا أن تهدم وتفرق البيوت  الآمنة ، أنا التي يجب  عليها أن تعالج القلوب الجريحة  وتضمد جراحاتها لا أن تجرح وتضيف آهات علي الآهات ، أنا التي ورثت العلم والحكمة عن أبيها لتكون مصباحا يهتدي به الحياري والتائهين فلا يمكن أن تكون أسيرة حب يعرضها لازدراء الناس الذين تحمل قضيتهم وأبسط ما يقولون عنها أنها خربت بيت كي تصنع لنفسها بيتا .

نعم لست أنا من يمكن أن تستمر في هذا الطريق . فما خلقت آبدا كي عايش لنفسي . يا ويح قلبي يموت وآمالي وأحلامي تنتهي وتندثر إلي الأبد . أحاول أن أنساه مرة وأحيا علي ذكريات لقاءاتنا مرات ومرات . لماذا بعد كل ما حدث أراه أجمل حلم وأرق حلم وأرق من قابلت . أراه نجما عاليا وجوهرة غالية يصعب علي فقدانها . أراه ماض لم أحياه ومستقبل ليس لي . أراه حاضرا غامضا لا هو قريب فأعاتبه ولا هو بعيد بما يكفي لأن أنساه . تتحجر الدموع بعيني وتتضخم الآلام حتي تصبح كالجبل وأخاف بين كل تلك الظلمات أن يضيع بداخلي . ماذا افعل ؟ إن خسرته خسرت كل شيء وستصير الحياة مجرد أنفاس ومجرد أيام تمر , وان قبلتك خرجت من جلدي ومن رسالتي التي خلقت من أجلها ، فماذا أفعل  ؟

كادت سمية أن تجن من كثرة حديثها لنفسها وما زالت عاجزة عن الاتصال به ، تخاف من مواجهته وتخشي أن تسع منه ما لا يرضيها فتكون صدمتها أكبر . تذهب بين لحظة وأخري إلي الهاتف وتحاول أن  تطلبه وعندما تصل إلي الرقم الأخير تنهي المحاولة . اذا دق جرس الباب أو الهاتف انخلع قلبها طنا منها انه هو . فكيف ستواجهه ؟ إنها لا تتخيل أبدا تلك اللحظات البشعة والتي سينهيان فيها كل ما يربط بينهما .

تجلس في مواجهة الأريكة التي كان يفضل الجلوس عليها حين يكونا معا وتنظر للمكان وتبتسم قليلا وتفكر في أن تسامحه ثم فجأة تتذكر قصة الخداع كلها فتهب واقفة وتقول لا .. لا لن أسامح ولن ارضي إلا بالفراق . كيف استطاع أن يخدعني ؟ كيف ؟

تنتبه علي صوت جرس الباب , وإذا به من كانت تنتظر

********************

أسرعت الأم المكلومة إلي الباب خوف من انفعال ابنتها وتهورها وقالت لها أرجوك يا ابنتي أن الأمور لا تعالج بهذا الشكل ـ التفاهم احسم ـ ولا تفعلي ما تندمي عليه يوما بأخذك قرار وأنت غاضبة  ، استمعي إليه أولا ثم نقرر بعدها ما يجب علينا فعله

دخل وجلس في نفس المكان الذي اعتاده والذي طالما شهد أجمل لحظات بين اثنين تجمعهما اسمي وأرق المشاعر .. وسادت لحظات من الصمت الرهيب وجهت خلالها سهام النظر إليه بينما الدمع الحارقة تنهمر من عينيها حتي بدأ هو بالكلام . قال لها : ممكن تسمعيني  ؟

اسمعيني أولا ولن أحاول أن استدر عطفك ولن أحاول التأثير علي قرارك ، كل ما اطلبه أن تهدئي وتسمعيني وبعدها لك الحكم والخيار ، حاولت أن تهدأ وجلست قبالته وانتظرت تبريره ، ليس تبرير الزواج وإنما تبرير إخفائه الأمر عنها ، وبدأ الحدث .

أنا لن أروي لك كيف تزوجنا لأنك علمت منها كل التفاصيل ، ولن أعيب عليها خلقا كي ابرر زواجي فقد كانت لي نعم الزوجة ولكن في حدود إمكاناتها ، يكفي أن اقل أن ما تقوم به تجاهي يمكن أن تقوم به أمي أو مربية أو حتي خادمة .

لقد تزوجنا   وكان كل ما يربطني بها علاقة أخ بشفق علي أخته ، كنت أتمني لها أن تتقدم  وتتعلم وترتبط بمن يهواه قلبها ويختاره عقلها ، لكن الأقدار أرادت شيء آخر واضطررت أن أنفذ رغبة والدي ليس إجبارا وإنما لسببين . أولهما أنني لم أشأ أن أغضبه فيغضب ربي والثاني أن كل ما كان يشغلني وقتها هو دراستي ولم تقابلني تلك الفتاة التي تجعلني أقف له واطلب منه أن يعيد نظره ، فتساوت عندي كل الفتيات وقلت لنفسي سأعتبرها قدري ولأكمل طريق العلم واشبع رغباتي كلها فيه ..

تزوجنا وكنت في واد وهي في واد آخر أنا في طريق وهي في طريق , كنت أسابق الزمن لأحقق نجاح تلو نجاح ، أعود من مؤتمر لأجدها تقول ماذا تحب أن تأكل اليوم ، انتهي من محاضرة لتقول ماذا تفضل علي الغداء غدا ، انتهي من كتابة مقال وأحب أن آخذ رأيها فيه فتضحك وتقول أن طاولة العشاء معدة ..

ربما أكون قد انشغلت عن تعليمها بنفسي ، انشغلت عن ذلك بدراساتي وكتبي لكنها لم تحاول أن تتعلم ، لم تحاولان تسألني يوما ماذا اكتب وعن أي شيء .

فكرت كثيرا في الزواج فكثيرا ما كنت احلم بمن تجلس بجواري لا كسيد مع جاريته وإنما كشريك مع شريكه ، حبيبي مع حبيبته ، وزوج مع زوجته ، نتناقش معا نتفق أحيانا ونختلف أحيانا ، نغضب ونبتعد ثم نتصالح ونقترب ، كنت أتمني أن تقول لا ، ولكن تعرف متى تقولها ، لكنني كنت أعود وأقول إنها ابنة عمي وزوجتي المخلصة ثم أن هذه إمكاناتها فما ذنبها ولماذا اظلمها ؟

أقرر وأتراجع وأصمم وأعود ، وكان كل ما يمنعني هو أخوف من الله ـ أليس من الممكن أن اظلمها ـ الم تفني أجمل سنوات عمرها في خدمتي ؟ فكيف تكون هذه نهايتها ؟ ثم عاود وأقول ومن قال إني سأظلمها ومن قال أني سأتركها ؟ أليس هذا حق ؟ أليس الاستمرار علي ذلك الوضع هو ظلم للنفس ؟ فلماذا اقبل بظلم نفسي ؟ لم لا استعمل حق كفله لي ربي وأتزوج ثانية وأحفظ لها ودها واعظيها حقوقها كافة .؟

لقد فقدت الإحساس بالحياة . أحيانا كثيرة كنت أتساءل وأنا وحدي في الليالي الطويلة  كل ما افعله أن انتقل من كتاب لكتاب ومن جريدة لجريدة أسال نفسي هل أنا حقا بين الأحياء ؟ إن كل ما يربطني بهم هو مجرد الأنفاس التي تخرج الآن مني

إن لكل إنسان طاقة والإنسان وحده ضيف وقد جبل علي ألا يكون وحده هكذا خلقنا الله ، لقد قضيت عمري بأكمله وأنا اشعر أني نصف إنسان نصف روح حتي أحلامي كان ينقصها شيء ، هذا الشيء عرفته ووجدته حين وجدتك أنت ، شعرت بحياة جديدة تدب في جسدي ، شعرت أني أولد من جديد بعدما حسبت إني وصلت إلي نهاية المطاف ، عرفت شعور الأرض الظمأى حينما يأتيها الغيث ، تغير مجري حياتي وأصبح للحظة عندي ألف معني ، فالدقيقة وأنا بعيد عنك كأنها دهر والساعات تمر وأنا معك كلحظات سريعة ..

لأول مرة اعرف معني أن تحب انس ويحبك إنسان ، لقد كنت قبلك مجرد آلة تدور بميكانيكية كي تؤدي وظيفة ، أما الآن فانا إنسان وربما أؤدي نفس الدور لكني أؤديه وآنا إنسان .

تغير سلوكي مع كل من حولي حتي معها ، فرق كبير أن يتعامل الناس مع انس آلي وانس له قلب ومشاعر . لقد تغيرت معها وحاولت أن أكون عادلا ورحيما في نفس الوقت وأطيق معايير إنسانيتي الجديدة ، إنسانيتي التي عادت إلي بك أنت ، وبحبك الذي أحيا الحياة بداخلي ففاضت علي من حولي ، وأعود فأقول أليس من حقي أن أعيش كانسان ؟ إنها فشلت في أن تعطيني هذا المعني خلال سنوات طويلة فلماذا أحكم علي نفسي أن اقضي بقية حياتي في هذا العذاب النفسي في حين أنه يمكنني أن أصحح مجري حياتي وبما لا يضرها في شيء .

أعلم أن غضبك ليس فقط من زواجي وإنما من إخفائي الأمر عليك وأنا اعترف أنني مخطئ ولكن ما دفعني ألي ذلك هو الخوف ، الخوف من فقدانك واقسم امني كنت سأخبرك ولكني أرجأت الأمر وقلت لنفسي دعها تعرفك أولا وتعرف انك لست ممن يمكن أن يظلم أو يحابي

اعترف بخطئي لكن لا يمكن لهذا الخطأ أن يحكم علي بالإعدام ، انك تعلمين مدي حي لك وتشعرين به فلا تضيعي كل ذلك في وقت غضب ومن أجل خطأ واحد . أنا في زمن قلت فيه مثل هذه المشاعر

صدقيني سنخسر كثيرا أنا وأنت علي السواء لو خسرنا بعضنا البعض ولا يمكن لنا أن نعوضه ثانية ، فمن بعدك سينها بنياني كله وذلك البيت الذي تخافين عليه ومن الظلم صدقيني سيتلاشي لأنني لن اقبل أن أحيا هذه الحياة الميتة مرة ثانية ، إن من عرف دفء الشمس صعب عليه أن يحيا حياة متجمدة مظلمة ، ومن ارتوي بعد ظمأ يذوب خوفا لو ذكروه بما مضي من سالف عهده

ثم انك تخافين من الناس ماذا سيقولون وأنت صاحبة الرسالة ؟ إن اصطحاب العقول لم يلوموننا أبدا فهو شرعة الله وان لم يكن لمثلي ومثلك فلمن يكون ؟ فممن تخافين ؟ من أولئك الذين لا يملكون ابسط قواعد الانتماء للدين والأرض ؟ إنهم لا ينتمون إلا لذواتهم وأفكار خاطئة توارثوها ، وحي هذه لموروثة لا يحافظون عليها . فلم ندع لهم دفة حياتنا كي يوجهونها كيفما شاءوا في حين أننا نحن من يجب عليه أن يتحكم بمقاليد الأمور كلها لأننا نحن من نحمل الفكرة الصحيحة لا هم ، نحن من يجب أن يقوم بالتطبيق الكامل لهذا المنهج ، أليس هذا ما اتفقنا عليه ؟ أنا لم اكذب عليك ولم أتعمد الكذب إنما أخفيت شيئا إلي حين واعترف مرة ثانية بالخطأ لكن بالله عليك لا تجعلي خطئا واحدا مبررا لقتلي وإعادتي إلي ما لا أطيق .

.................................................................................

ما بال الأيام تمر مر السلحفاة الخائفة ، ساكنة صامتة صمت القبور وما بال الشوارع فارغة ، وما بال العيون دامعة والآهات ملتهبة ، وما بال القلوب جريحة وحيدة وأرواح هائمة لا تدري أين المسير، والأحلام تموت بين أيدينا ولا نملك لها شيئا إلا بكاء الأطلال

ما هذا الذي فعلت ؟ هل بنيت بيتا من رمال علي شاطئ مياه غاضبة ؟ أهذه هي الدنيا ، أهذه هي الحياة ، بئست والله هي الحياة ، بئست الحياة تلك التي يكون فيها كل مانتمناه فيها أن تنتهي تلك الحياة، بئست الحياة تلك التي نضطر فيها إلي دفن أحلامنا حية ونجدها تصرخ أمامنا وتستغيث بنا ونحن بغبائنا نجهز عليها ارضاءا لبعض من لا يقدرون ولا يفهمون معني الحياة

أتكون تلك هي النهاية ؟. أيكون علي الرحيل ؟ الرحيل إلي اللاشيء اللاوجود ؟ الرحيل إلي التلاشي ؟

أم يجب علي الصمود والمواجهة وأخذ حقي ولو بالقوة وتوضيح رؤيتي للناس ؟ لست أدري ,

لست أدري إن كنت حقا قادرة علي المواجهة والمطالبة بما هو لي ، إنني لست ملكا لنفسي ، أنا ملكا لهم أنا منهم لكنني مسئولة عنهم وهذه المسئولية تتطلب مني التنازل عن كثير من الحقوق .. أم أن هذا أيضا من واجباتي ؟ أيكون ذلك من كامل تطبيق المنهج

استمر واشتري حياتي وربما يأتي اليوم الذي يعود فيه الناس إلي أصل شرعتهم ويفهمون وساعتها أكون قد فزت بكلا الآمرين ؟ والله لست أدري ماذا افعل ؟ لست أدري ....   

تتلك القصة ليست قصة فتاة بعينها ، إنما هي في الحقيقة هي قصة الآلاف وربما الملايين منهم ومنهن يبحثون عن مخرج ، الشرع وتطبيقه الكامل أم التقاليد والعرف ؟ الجميع ينتظر الجواب وهو موضوع مفتوح للمناقشة والحوار عسي أن نجد مخرجا لهؤلاء الحيارى.