الأمطار الدافئة

عزة مختار

إنه موسم الأمطار ....  وها هي تتساقط بغزارة مسرعة الخطي  .... إلي حيث الأرض العطشى لها منذ زمن بعيد ....  بعد موسم شاق لصيف حار جدا  ... ترويها بشدتها التي تساقطت بها ... وكأنها مقذوفة للأرض لا متساقطة  ... ويبدو كذلك أن الأرض كانت تنتظر بشوق تلك الحبات الغالية من المطر

لم أستطع أن أقاوم نداءه ... فهرعت إلي الخارج وسط تحذيرات ممن حولي ... من شدة المطر وبرودة الجو ووعورة الطريق ...  لكنني لم آبه لتلك التحذيرات  .. ولم أنتبه لتلك النداءات .. وسرت في طريقي مسرعة نحو هدفي .. وكأن هناك من يناديني أن أذهب  .. وصلت للشارع الخالي تقريبا من الناس  .. شعرت بروح جديدة تخترق ذاتي... وسنوات من العمر تسقط عن كاهلي وكأنها لم تكن... سرت في الشارع تحت المطر الغزير حتى كادت الرؤية أن تنعدم عندي .. نتيجة دخول حبات منها يبدو أنها ضلت طريقها إلي الأرض .. أرادت أن تداعب عيني فضاعت الرؤية والرؤى جميعا ... من بين تلك الحبات المتلاحقة ... تحسست طريقي وأنا أسير بينها وكأنني منها...  تملكني بعض الندم علي خروجي في ذلك  الوقت  ..ومحاولتي الاستمتاع مع ذلك الضيف الهادر ..الذي تحول في تصرفه معه إلي الغضب أن تحديته  .. وخرجت ألتمس أسراره وأشق طريق حباته  حتى شعرت أنها تفكر في إغراقي ... إمعانا منها في الانتقام من تلك التي قطعت عليها الطريق إلي حيث تبتغي .. تحسست طريقي بينها ... وفكرت في العودة ...  لكن أعود إلي أين ... لقد اكتشفت أنني سرت زمنا بعيدا  ، ربما سنوات ولكني سرتها إلي الخلف ...  وعدت بعمري إلي نفس المكان ...  ونفس الحدث .. نعم ... إن ما خرجت إليه لم يكن حدث آني ...  لم تأتنا الأمطار ...  وإنما أنا من سافرت إليها ... عدت بعمري كله إلي حيث  هو هنا .... مكاننا الذي اعتاد أن يصطحبني إليه علي شاطئ البحر .... المكان الذي أفضله حين تغزر الأمطار وحين تشتد الرياح ... كل شيء كما هو ... البحر علي حالته .... شاطئ  طردت الرياح العاتية والأمطار الغزيرة رواده الذين اعتادوا أن يقتحموه صيفا ... بينما هو يحاول أن يعيد لنفسه كيانه وخصوصيته في فصل الشتاء...  تتسارع أمواجه كي تلحق ببعضها البعض .... فتلك موجة صديقة تبتغي اللحاق بصديقتها التي سبقتها ... ولكن هيهات ... فمن سبق بالرحيل أبدا لن يعود...  ثم هذه الموجة المرتفعة المتسارعة التي تحاول أن تسبق الزمن ... إنها حبيبة تبذل كل ما عندها كي تلحق بالحبيب ...، لكنه الحبيب يأبي التراجع أو الانتظار ....  ومنها ومنها ، ثم هذا الشاطئ الذي طالما شهد معنا أجمل لحظات العمر ...  تشاركنا معه في الفرحة بالمطر ...  وتشاركنا الفرحة بالرياح الباردة التي منحتنا الدفء رغم شدة برودتها ، تشاركنا حبنا لفصل الشتاء ... ويبدو أنه اعتاد مصاحبتنا له في مثل هذه الأوقات ...  فصارت ألفة ... وصار حب صامت ... كلانا يعرف أن الآخر يعشقه ... لكن طبيعتنا معا تأبي التعبير عن الحب بالكلمات ...  فارتضينا الصمت صاحبا ثالثا لنا .... ذلك الشاطئ طالما شهد معنا لحظات الجنون ...  تلك التي ضمتنا أياما ...  حين كنت ألح عليه في الخروج ... ألح عليه مرارا حتى يرضي ...  بعد أن أبكي كالأطفال مرة .. ثم أقبله مرة أخري .. وأتدلل عليه .. ثم أضمه ضمة لا يستطيع معها إلا أن يقول :... مجنونة ، وماذا سأفعل مع مجنونة ؟

دقائق معدودة ويضمنا هذا المكان ... حيث البحر والرياح وحيث المطر الحبيب ... الآن فقط عرفت مصدر النداء ... إنه هو ... أسمع همسه ... أنفاسه ... أشم رائحته .... إنه هو .. أكاد أشعر بدفء يده بينما تضم يداي ... أكاد أشعر بضمة صدره  بينما هو يخبؤني من الأمطار ... ويلهو بأنامله الحانية الباردة علي وجهي ليحميه من المطر فتدفأ يده ويدفأ وجهي ...  طالما تحمل جنوني .. وصبر علي رغباتي الصبيانية ... والتي لا يحتملها عقل ....  أكاد أراه  قادما من بين السيل الجارف الذي يشتد شيئا فشيئا ..... صوت أنفاسه أقرب لي من صوت الرياح ..... ودقات قلبه أسمعها فتنسيني صوت الرعد المخيف ..... وكأنها تريد أن تطمئنني أنه بجواري .... حتى البرد الشديد الذي كدت أن أتجمد بسببه ... يتحول لدفء غريب ينتشر من حولي  ... حتى صرت كأنني أسير في حديقة في أوائل الربيع . ..  رأيته قادما يشق الطريق ... من بين حبات المطر المتسارعة وأراها وكأنها تبتعد عن طريقه كي يمر من بينها بسلام .. اقترب بينما اتسعت عيناي محدقة به .. وازدادت ضربات قلبي ... ومددت يدي كي يأخذها بين يديه ... انهارت حبات علي وجهي دافئة ... لست أدري أهي من المطر .. أم دموع تتسارع هي الأخرى لتزيل أحزان السنوات التي مرت.... قبل أن يصل مددت يدي فإذا هو يمد يده لي ... وإذا هي لحظات وأكون بيني يديه ...  لم أتحدث إليه ... نظرت فقط  ... وانتظرت كلماته التي طالما احترقت إليها شوقا .... لم يتحدث هو الآخر ... سكت .... أطال النظر في صمت وابتسامة وضمة.... وجدت كلمات تخرج من فمي دون إن أحرك شفاهي ... انسابت الكلمات مني دون قدرة علي النطق ... سمعت صوتي ... وسمعت كلماتي ...... قيلت له همسا .... لماذا رحلت سريعا .... هنت عليك .... هان عليك عشقي ... لم تشعر بمعاناتي ...لم تسمع نداءاتي .... لم تري الدنيا مظلمة من بعدك .... لم تعرف أن هناك هوة سحيقة  صنعتها بيني وبين العالم منذ فراقك .... هوة باتساع الفرق بين السماء والأرض ... بين الدنيا والآخرة ... بين الموت والحياة... جئت عند قبرك ... لم أبكي ... ولم تطاوعني الدموع أن اسكبها عليك وكأنك مت ...  لم أحتمل كلمة رحمه الله وكأنك لن تعود ...  لم تشعر بي ... وقفت أمام باب يقف بيني وبينك أتساءل ...  تري إذا كسرته تلاشي الزمن بيننا لنصير في عالم بين الموت والحياة يضمنا ....  باب وجدار وصمت وحديث من جانب واحد وحوار ليس عليه رد .... لم يجب ... استمر في النظر إلي وأطال ... ابتسم وضمني مرة أخري .... لذت بالصمت بعدما أيقنت أنني لن أجد جوابا .... غرقت في ذلك الحضن الذي طالما ذوبني انتظاره .... لذت بالصمت وتركت الفعل يعبر ... والحبات المتساقطة علي وجهي تعبر ..  لذت بالصمت بينما هو يتلاشي من بين يدي ويبتعد ...  حين يتوقف المطر ...  وتخرج الشمس علي مهل من مخبئها ترسل خيطا ثم خيطا ثم خيطا ...  ضوءا يكشف كل شيء ... يكشف الحقيقة فينذرني بالرحيل ....  تلاشي من بين يداي ومن بين أذرعي ... لأجد نفسي حين تكتمل الشمس .... وحين تكف السماء عن البكاء .... وقد لذت بضمة لنفسي بين أذرعي ... توقف المطر بينما لم تتوقف تلك الحبات المنهمرة علي وجهي ....