هذا هو السيناريو الذي كان
هذا هو السيناريو الذي كان
فراس حج محمد /فلسطين
كان دائم التفكير بسيناريوهات محتملة لمقابلة والدها، وكان كلما قرّر ذلك يتراجع، وتخفت حماسته، فقد لاحقته دائما عقدة النقص والخوف من الخسارة المحتمة، فهو لم يرد أن يخسر آخر بارقة أمل، فكّر كثيرا، وأجلّ اللقاء كثيرا، وقد شعر مؤخرا أنها تلومه من طرف خفيّ، إذ لم يسارع لمقابلة أبيها، وقد أعطته الضوء الأخضر لذلك، وشجعته، وكانت في كل اتصال تذكره بالأمر، يبثها أشواقه وعذابه لبعدها عنه، وأنه لا يستطيع أن يراها أو يتحدث معها، فيقول لها: "متى سينتهي عذابنا أيتها الغالية"، فتردّ من فورها: "ألست أنت من يؤجل مقابلة أبي؟"، يتلعثم، ويرتبك، لعله يريد أن يطيل أمد اشتعال الأمل الذي عاود توهجه، لا يريد أن تكون المقابلة آخر سد يبعدها عنه، يتعلل بحجج كثيرة، ليس لأنه لا يريدها زوجة له وأما لأبنائه، ولكنه كان متوجسا من تلك النتائج الكارثية المجنونة، لو أن أباه لم يستقبله أو لم يرد أن يسمعه.
تأتيه الفرصة، فيجمع أمره، ويتأنق ويحتاط للأمر كما يجب أن يكون، لعلّ والدها يغير رأيه، وقد طبق نصائحها حرفيا لضمان أن تكون المقابلة مثمرة أو مسفرة عن شيء ما، ربما وعد مؤجل، أو لقاء يتبادلان فيه الأفكار حول الزواج والظروف والأحول، ذهب إليه وهو في كامل الاستعداد لأن يكون لائقا في مظهره، ولكنه مع كل ذلك كان يشعر في داخل نفسه أنه واهم، فكثيرا ما كان ينعت نفسه بأنه مصاب بمرض الإفراط في التفاؤل، استقل السيارة متخذا من المقعد الخلفي مستقرا لجثته الهامدة النحيلة المتيبسة، وأما عقله فهو هناك حيث أبوها في مكتبه الفخم، وبيده سيجارة من فاخر أنواع الدخان الأجنبي، يمارس عمله بكل ثقة واقتدار، ويتحكم بأعماله وزبائنه وأهله على رأي واحد، فقد علّم الجميع أسلوبه أنْ لا أحد يكسر قراره أو يستطيع أن يثنيه عنه.
تأخر قليلا عن موعده المرسوم، يصل إلى تلك العمارة الفخمة في أرقى أحياء المدينة، ينزل من السيارة، يتأكد أنه في المكان الصحيح، تفقد العلامات التي أعطته إياها، "السوبر ماركت"، والشركات الأخرى، يتقدم نحو باب العمارة، وقلبه يخفق، ورجلاه تعانيان من ارتعاشات الخيبة والحسرة، يتفحص اللوحات المكتوبة على أحد جدران العمارة، فيقرأ الاسم ورقم الطابق، إنه هناك إذن، صعد الدرج، ولم يرغب بأن يستقل المصعد، وقف على باب المكتب، لم يستطع أن يفتح الباب، حاول مرارا، ظنّ أن الباب مقفل وأن لا أحد هناك، لاسيما وأنه نظر إلى مكتب السكرتيرة المقابل للباب الرئيسي، لم تكن موجودة، فكر بالرجوع، لعل والدها غير موجود، سأل موظفة أخرى في مكتب مجاور، عن وجود أحد في الداخل فأجابت بأنهم موجودون، أخبرها أن الباب مقفل، فقلت: "اطرق الباب فسيسمعونك ويفتحون"، وبعد دقتين أو ثلاثة تطلّ السكرتيرة برأسها من بعيد وتؤشر له بأن عليه أن يسحب الباب ، حاول ذلك، شعر بأنه لا قوة معه بتاتا، تأتي مستنكرة فعلته، فتحت له الباب، وأخبرها عن وجود المدير، فأخبرها باسمه، ليأذن له بالدخول.
وأخيرا، وصل، وإذا به في مواجهة أبيها وجها لوجه، بدا له متجهما، ممتعضا، يسلم عليه ويصافحه، ويتسمر في كرسي فخم، يريد أن يكسر حاجزا ما في نفسه، فسأله عن صحته، وأحواله، وأبوها يرد ردا مبتسرا ودون أدنى اكتراث، يشعل سيجارة، ولم يعرض عليه مشاركته، مع علمه بأنه يدخن، ويطلب من السكرتيرة عمل فنجان من القهوة.
يسود صمت للحظة بدت قاسية وجارحة، يفكر كيف سيبدأ حديثه معه، وبأي طريقة، وما هي الجملة المناسبة؟ يفرك أصابعه، ويتشجع قائلا:
- ما رأيك؟ هل لي أن أتحدث في الموضوع؟
يجيب من فوره ودون تردد:
- أفضلُ أن لا تتحدث؟
شعر بغصة قاتلة في صدره، ولم يُعِد عليه أي كلام أخر، نهض ليستأذن مسلما، ومادا يده ليصافحه، شاكرا له حسن الاستقبال وطيب اللقاء، يطلب منه أن يشرب القهوة، مرتين، ثلاث مرات، وهو ما زال مادا يده، ويقول بعد كل طلب منه بأن يشرب القهوة "سلام عليكم"، مصرا على أن ينهي هذه المقابلة التي لم تكن أكثر من سكين أوجعته وكادت تقضي عليه، خرج من المكتب وفي نفسه حسرة لا تكاد توصف، ولا تستطيع الكلمات لها حملا، يهرول مسرعا، وفي صدره حقد على نفسه وقلبه اللذين جعلاه ينداح سرابا وهو يطارد وهما، صنعته مخيلة رجل لم ير في ذلك العريس سوى إنسان متعلق بنجمة علوية، لن يستطيع يوما أن ينظر إليها من بعيد فكيف بملامستها والزواج منها؟
يخبرها بما كان، ويعدها أنه لن ييأس، وسيحاول المرة تلو المرة، وأنه سيعود، طالبا منها أن لا تقطع علاقتها معه، وأن يظلا مناضلين من أجل أن يتم الأمر، ويجتمعا، لم تَعِدْه بشيء، منتظرة ماذا سيقول لها أبوها، وبأي حديث سيحدثها عند عودته، ربما أسمعها كلاما ملّت سماعه، وربما هددها وتوعدها، استأذنت منه، وهي في كامل انتكاساتها وخوفها من مجهول ستسفر عنه الساعات القليلة المتبقية لوصول أبيها البيت.