اللحظة الثانية... لحظة حلم!

اللحظة الثانية... لحظة حلم!

1. أحلام.. على الهامش!

جمال الحنصالي

دفّ الحمام فرحًا وحبورا وسعادة ممزوجة بثقة في النفس كانت كبيرة،

دفّ بعد جدّ وعزم ومثابرة كانت شديدة،

دفّ بعد محاولة وخطأ وعناء وشقاء وخطة كانت تبدو ناجحة..

 ودّع الشحرور والسّمان والذّعرة والمُرْعة... أصدقاءُ الأمس الجميل حيث الأيام كلها كانت روْعة، ودّع أيضا من كان يعتقد أنه يحميه واضعا إياه في القفص، وشدّه بحبل الأوهام والقصص، ودّع تلك البساتين الخالية من الأشجار وتلك المروج التي غابت عنها الأزهار وتلك الأرض الجرداء التي هجرتها الأعشاب، إلا القليل من الكلإ المتناثر هنا وهناك، أرضٌ كانت بالأمس القريب تجودُ بالخيرات وتنتعش بروح الربيع وتتلون بأبهى الألوان، جفّتْ آبارها وأنهارها وكل تلك الوديان، لا قطرة ماء تطفئ نار العطشان.. إلاّ بعض النقرات في الجبل أو في تلك الصخرة أبت إلا أن تحتفظ بالقليل من زخات المطر.. لكن في زمن كان !

راح الحمام بعيدا بعيدا عن كل العيون التي كانت تراقبه، راح تلتهمه زرقة السماء المغرية شساعتها، المبهرة ألوانها، الساحرة نجومها، المخيفة أبعادها.. صار الحمام قادرا على اختراق ما كان يُسمّى "سحابة صيف" تلك السحابة التي حدثه عنها جدّه أيام كان فرخا صفّافا، يحْسبها تنقشع كما كان يسمع وكما تعلّم وهو تلميذٌ ينعته المدرس بالكسلان المزعج. ها هو الآن ينتظر بشغف عميق أن تصير السحابة مُزنا... إنه فعلا ينتظرُ شيئا اسمه "الغيث" وذاك "العام" الذي يُحكى أنه بحلوله تنزل قوة جبّارة لتُخرج من الأحجار وردا ومن الصحراء ماء ومن الفيافي شجرا.. إنه "العام" الذي يُنعت ب"الزين"... بتلك اللغة البسيطة !!

 قرّر الحمام الانتصار على الخوف التي تملّكه، الخوف من الليل وسوادِه... وامتطى كبرياءه المصطنع فانضم إلى الطيور التي تطير ليلا بلا خوف بلا فزع . هكذا أصبح يطير بلا جوازات السفر، بلا راية على الظهر، بلا خارطات الطريق... صار يركب هواه كي يعتق الجالس هناك فوق صخرة خشنة أو المستلقي هنالك على أريكة مريحة يرسل نظره إلى السماء، أن هذا الحمام صار يحصد الذنوب، أو أنه مقبل على ارتكاب حماقة من حماقات المتهورين، أو أنه تائه عن المسار لا يعي رغبته، كطائر طائش تحمله الرياح الهوجاء...

 لكن، في الحقيقة، كان فقط يمثّل أحيانا ويمتثل أحايين أخرى، يعلم علم اليقين أن العلم نورٌ ولا حلكة بعد اليوم، يتخيّل نفسه على بساط أخضر سحريّ يأخذه كريشة حرّة لا حول لها ولا قوّة. يؤمن بأن الله ذرأه كغيره من الخلق من أجل الطيران لا التيه، من أجل الهدير لا البكاء، من أجل التحليق لا السجن... وأشياء أخرى كثيرة.

 تراه يرسم بجناحيه الممتدين إلى صفحة السماء رموز الحب والإخلاص، ويصنع أنشودة الوفاء والسلام، يظن أنها بداية "العام" الذي حلم به وهو صغير، لكنه أضحى، في آخر المطاف، مجرد حمام، كان فرخا صغيرا ثم كبُر، كان جائعا ثم شبع.. وأخيرا أصبح مجرد حمام . هكذا يريدونه أن يبقى مجرد حمام كغيره من الحمام، يحمل الخواتم المرقمة والرسائل المجهولة ويفاجئ العيون الساذجة المسحورة وبمناقره البئيس غصن زيتون ليس إلا، يباع ويشترى يحركونه في كلّ الاتجاهات ولكل الغايات والأهداف وتحت كل المسميات والتبريرات، ليس إلا.

 الأعوام تتعاقب غير مبالية أن عُمْر الحمام محسوب كالدقائق المعدودة؛ سنواته قد زرفت وطيرانه أخذ يتثاقل ونظره أنشأ يتبدّد وأفقه صار يتقلّص.. أدرك الحمام، على حين غرّة، أن عِلمه جلب له الحُلكة ولم يجلب له الحظ الذي وعده برسم الابتسامة ذات يوم على محياه. عِلمه لم يأت بالنور كما توقع، لم ينصفه كما تنبأ... ثم صاح ضاحكا...لا، بل ساخرا:

-" أنا من التجأت إلى السماء وقبلها إلى الأرض فخذلاني (فخذلت)، وما صرتُ كما أرادني أجدادي ومن علّموني لعبة تحريك الجناح بلا طيران، وفتح وإغلاق المنقار أثناء الإحساس بالجوع، وإخفاء مخالبي عند مواجهة الأخطار، والاتزان على الأغصان المنكسرة.. وأضحى التيه ملاذي أنا، طبعا، وباقي أقراني.

 مجدّا في كلامه أو مازحا، الأهم أنه، وفي لحظة حاسمة، أطلق صرخةً يائسة كانت في قاع الأنفاس محبوسة، أخيرا، انتصر عن الكمون الملفوف حول لسانه بحرير مزيف، صاح وانتفض، صاح وانتصر، انتصر على عادة التردد والخوف والاستغراب السرمدي الذي طبع حياته، وأصبح سكونه، فجأة، متمردا.

 سألوه، ماذا تريد إذن؟

 أجاب، لا، بل همس:

-" أريد قشّة، أطالب بقطرة ماء، أتمنى شُجيرة، أحلم بغصن أو غصنين توأمين يسندان عشي الصغير، وورقة أو وريقتين أو قطفة لحاء منك يا شجيرة، يحميني من زفرات الريح المستبدة وهوشات الليل المرعبة ونوبات الساقور الحامية ولسعات البرد القارسة....رغبتي، في الحقيقة، في حبة أو حبتين قمحا أو شعيرا أو ما شابه ذلك، أو أي شيء يزعج سكون بطني الخاوية، كي يدغدغ مشاعري فتستيقظ الأحلام النائمة في ذاكرتي المغبونة منذ ذلك اليوم المشهود الذي أطلقوا فيه عليّ اسم "حمام"؛ ذلك اليوم الجميل لن يعود أبدا مهما تكاثرت الوعود وتلونت الأحلام !

 ثم نام الحمام كما ألف فما عاد السلام، فهو لم يعدْ يغدو ولم يعد يروح، يحاول أن يصدق كي لا يصدّق أنه صادق، يحاول أن ينسى كي لا ينسى أنه منسي، يحوم حول ذاته وهو نائم، إنه شرط وارد، يحوم حول ماذا؟

 يحوم حول هذه البركة التي مازال الماء غائبا عنها، مع الأسف..