قمة
قمة
يسري الغول
يومها فقط أدرك مدى هشاشة الحياة، وانعدام قيمتها أمام طوفان الموت، فعلى إحدى قمم الهملايا وعلى ارتفاع 24000م فوق مستوى البحر توقف مع زميله وقد أجهدهما تسلق تلك القمة، وفي أثناء حديثهم وجد نفسه يتهاوى مع زميله نحو الأسفل، وقد كان انحداره سريعًا جدًّا، وراوده شعور بأنه هالك لا محالة، فصار يتخلص ويتخفف من أحماله التي يحملها فوق ظهره وهو يهوي بها نحو الأسفل بسرعة 60 ميلًا في الساعة، إلى أن تكسرت أضلاعه وتمدد على الأرض مستحلبًا ريقه، لم يدم ذلك طويلًا، فقد أوقن أن بقاءه في تلك البقعة سيودي بحياته، وقام متحاملًا على نفسه وسار بغير هدى، وظل يمشي ساعات رغم تكسر بعض ضلوعه، إلى أن سمع صوت نباح بعض الكلاب؛ فأدرك أن هناك حيًّا يقطن المكان، وما إن وصل إلى أحد الأكواخ وطرق الباب حتى أغمي عليه.
عدة أيام طوال قامت امرأة عجوز برعايته، وتطبيب جسده، وسقايته بالماء وإطعامه، دون أن تعرف لغته أو كيف تتحدث إليه، ثم بعد ذلك حملته تلك العجوز على عربة ونقلته إلى قرية أكبر بها مستوصف طبي، وهناك ودعته العجوز، دون أن تأخذ منه أي مبلغ لقاء رعايتها له.
بعد شهر أو أكثر تعافى الدكتور رامتشدان جايكومار، خبير التصنيع والمحاضر بجامعة هارفرد بالولايات المتحدة الأمريكية، وأدرك حقًّا أن الحياة لا قيمة لها، إلا حين نملأها بالخير، وأوقن بأن المرء قد يتغير في لحظات، فصار كل تفكيره بصناعة أي شيء من أجل تلك المرأة التي لا يعرف أين تسكن، وهل ما زالت على قيد الحياة أم ولت إلى غير رجعة. وقد قرر يومها أن يعود إلى ذلك المكان؛ ليرد الدين، فيبني مدارس لتلك القرية ويدفع أموالًا للمعلمين هناك، عادًّا ذلك جزءًا بسيطًا من دين كبير عليه لعجوز أملاه عليها واجب إنساني صرف.
تلك المرأة كانت مثالًا لمن لا ينتظر شكرًا من أحد، فقد أدت واجبها على أكمل وجه دون أن تنتظر تكليفًا، وذلك الرجل كان مثالًا لمن يرد الجميل، بصنيع أروع من أن تسجله الحروف، وهو بناء مؤسسة تقوم على إذكاء العقول.
لقد مات جايكومار في أثناء ممارسته لهوايته في تسلق الجبال في الأكوادور، لكن المؤسسات التعليمية التي بناها والطلاب الذين أرفدهم بعلمه لم يموتوا، بل كانوا علامات مضيئة في تطوير البشرية. فأين بصمتك قارئي العزيز؟