زيارة بلا موعد
زيارة بلا موعد
سمر حامد العامودي
ما أجمل هذا البيت العالية شرفاته، لم يلفت انتباهي أيّ بيت سواه، إذ كانت تلفه شجرة لبلاب ضخمة تتفرّع غصونها الغضة المتناسقة حول الشرفتين الأماميتين اللتين أراهما أمامي، تمنيت لو أفتح نافذتي أنظر من خلالها، ولكن!هطول المطر المتواصل حال بيني وبين ذلك، فاكتفيت بالنظر من زجاج النافذة.
وجال نظري في الشارع الضيّق التي تقوم عليه تلك البيوت، فإذا به قد خلا من المارّة، عدا رجلاً يعدو في خطى واسعة يحمل شمسية لا تحتمل زخات المطر القاسية عليها، فيمسكها بيديه الإثنتين، ورفعتُ بصري إلى أعلى فإذا البيوت شاخصة هادئة، وحبات المطر الغزيرة تغسلها بسخاء، وتبسمتُ إذ رأيت أوراق اللبلاب الخضراء تلمع حول الشرفتين، ولكن! ثمة ظل خلف زجاجها يروح ويجيء، وتبيّنتُ بعد رفعها ستارة تلك الشرفة، أن امرأة تطل من خلفها، وتلصق بوجهها لتنظر بشكل أوضح، وكانت مثلي تجيل نظرها في الطرقات، كأنما تنتظر أحداً ما.
دعاني فضولي إلى الإلتصاق بنافذتي وجعلت انظر كما تنظر، ولكني تعبت من الوقوف لأكثر من ساعة بهذا الشكل، وهي لم تتعب، ولم تملّ، وذهبتُ إلى نافذة بيتي من الجهة الأخرى، لأتعرّف على هذه المنطقة أكثر وأكثر، بما أنني ساكنة جديدة، ومن نافذة مطبخي- حيث صنعت لنفسي فنجان قهوة-، رأيت أيضاً بيوتاً جميلة لم أكن قد رأيتها، وطرقات متعرجة.
وبدأت حبّات المطر حينذاك ترتفع إلى أعلى، لتتماسك رويداً رويداً، وتصبح غيمة من جديد، ورجعت بعد دقائق إلى شجرة اللبلاب، وفوجئت حقا إذ رأيت تلك المرأة ما برحت مكانها، غير أنها ابتعدت قليلاً عن زجاج نافذتها، حيث ما زلت أراها، وتنظر يمنة ويسرة، ونظراتها تلاحق السيارات والحافلات، وبعد دقيقتين رأيتها تفتح النافذة وتطل منها. وذلك بعد أن توقف هطول المطر نهائياً.
قررتُ أنا ما بين دقيقة وأخرى أن لا أشرب فنجان قهوتي الذي صنعت. وأن أشربه عند تلك السيدة وأكون أنا الزائر المنتظر، إن كانت تنتظر أحدا؟
وبما أنني أتوق للتعارف إلى الناس وخاصة جيراني، ابتغيت في هذه اللحظة أن أتعرّف عليها، واغتنمت فرصة سنحها المطر لي إذ توقف، وما هي إلاّ دقائق خمس، حتى صرت قبالة بابين متقابلين في الطابق الثالث، في العمارة المقابلة. فقرعت جرساً هو الأقرب لي، بيد مرتعشة، خوفا ألاّ يكون المقصود، وقبل أن أفكر بأيّ شيء، فُتح الباب، وأطلّ وجه المرأة التي رأيت، فارتحت كثيراً، وعرّفت على نفسي قائلة: أنا الساكنة الجديدة في العمارة المقابلة، وقبل أن أكمل كلامي قاطعتني قائلة: تفضلي بالدخول، فدخلت البيت وتبعتها، ومشيت بضع خطوات حيث صالة رحيبة، فأجلستني على مقعد جميل بجانب النافذة، وذهبتْ.
أثناء ذلك، تساءلتُ: امرأة في مثل عمرها، آخر الخمسينات فيما يبدو، هل تعيش لوحدها؟ ورأيتها تحتضن كتاباً بين يديها كما لو كان طفلها المدلل.
فهل تعمل في مجال التدريس؟
ودارت عيناي على الجدار أمامي مباشرة، فرأيته مليئاًٍ بالصور الفوتوغرافية، ولا أدري كيف تركت مقعدي، ومشيت ثلاث خطوات، وإذا بي أطّلع عن قرب على هذه الصور، حيث لفت انتباهي أنّ هناك ورقة بيضاء ثُبّتت تحت اصطفاف الصور، وكما يبدو أنّ الخط واضح وجميل، وقلت في ذات نفسي، هل من حقي أن أقرأ ما كُتب، وهممت بالإنصراف إلى مكاني، ولكن! فضولي آه منه، ما استطعت كبح جماحه، فقرأت على عجالة هذه الأبيات التي كُتبت بالحبر الأسود: (طال فراقكم عني واجتاح قلبي الهمومُ وعظمت فيه الحمم.
أمن ذنب اقترفته في حقكم، أم لحبكم في تعذيبي والألم).
وقبل أن يدعوني فضولي لأكثر من ذلك، أقبلتْ المرأة بوجه بشوش ترحب بي، فعرّفتها على نفسي أكثر وعرّفتني على نفسها، فأنست لها كثيراً، وجرى بيننا حديث طويل ومتشعب، ولم أملّ من سماعها، كانت تنطق بكلام رتيب ومنسّق، حدثتني عن المطر بدايةً، ثم عن بيتها وأنّ لها عشرون عاماً تعيش فيه، وعن أقرب الجيران إلى قلبها، وعندما وصلنا إلى الحديث عن الأبناء، أطرقتْ، وتنهدتْ، فبادرت ُ بهذا الشأن أسألها عن الصور المعلقة، هل هم أولادك؟ قالت: نعم أولادي وبناتي، واستأذنتْ على الفور لتحضر الشاي، فأذنت لها،
شعرت أنني أوقعت الأسى في قلب جارتي، لذا لمتُ نفسي وعقدت العزم أن لا أسألها عن أي شيء لأني أخاف أن أسيء لها من غير عمد، وبعد لحظات عادت بكوبين من الشاي وشفتاها تفترّ عن ابتسامة رقيقة، وعلى وجنتها آثار دمعة لا زالت رطبة، وأجابت عن أسئلتي وهي تقدم الشاي، وهذه الصور المعلقة هي حصيلة ذكريات جميلة، واسترسلت بكلامها عن الأيام الخوالي، ولكنني خفت أن أسمع منها ما يفتح جروحاً كانت قد اندملت، وسرعان ما تذكرت الكتاب الذي كانت تحمل عندما دخلتُ منزلها، وهذه كانت المّرة الأولى مذ بدأنا نتحدث أغيّر فيها مجرى حديث، فقد كانت- غالباً- هي التي تتحدث وتفتح موضوع وتغلقه، فسألتها عن الكتاب، وهل تحب القراءة؟ أجابت بأنها مولعة بقراءة الكتب العلمية والثقافية، القصص والشعر، وأن هذه الكتب تسلّّيها طيلة الوقت، ولكن! كتابي هذا- وأشارت إلى الكتاب الذي كانت تقرأ- قد شارف على الإنتهاء، وما زال النهار في منتصفه، وهو يمضي كسابقه، ولا يختلف نهار عن غيره أبداً.
وبطريقة ما، أخذها الحديث عن أولادها فشكت قائلة: وددتُ لو أنهم يزوروني دائماً، فأنا أتوق لرؤيتهم، لكنهم مشغولون بأعباء هذه الدنيا، ولديهم أطفالهم، وقالت بصوت متهدّج قليلاً: إنهم لا يأتون عندي إلا كما تأتي المناسبات في السنة، وأنا أشعر بالوحدة، وكنت أتمنى لو أنّ أحدهم طرق بابي في هذا الجو الماطر الجميل، كي لا أراه كئيباً. ولكن! لا أحد يسليني سوى كتابي الذي احتضن، وأثناء حديثها، سمعتُ صوت سعال واهن، رفعت بصري اتجاهه، فقطعتْ عليّ تساءلي أن هذا صوت زوجها المريض ولا يقوم من السرير إلا قليلاً، فمعظم وقته يقضيه نائماً، وهو على هذا الحال منذ عدة سنوات، وحالته تسوء ولا تتحسّن.
بعد هذا الحديث، ران الصمت لحظات، واعتدلت في جلستي كي أستأذن بالإنصراف، إلا أنها سبقتني واستأذنت، لتعود بعد دقائق بفنجانين من القهوة وقطع من حلوى صغيرة متنوعة.
خجلتُ لحسن ضيافتها، وشكرتها جزيل الشكر، وهممتُ بالإنصراف كرة أخرى، وأخذتْ بدورها عليّ عهداً أن أعود لزيارتها، وصافحتني بكلتا يديها، وظلّت تتحدث، كأنها لا تريد أن أذهب، فسمعت صوت حبات المطر تنقر الزجاج نقراً خفيفاً، وكان هذا عذري لمغادرة بيتها قبل أن يشتد المطر، فوافقتني عن رضاً، مودعة إياّي إلى الباب.
لا أدري كيف وصلتُ الشارع المؤدي إلى بيتي لذهولي من هذه الزيارة وهذه المرأة المسكينة، ولا عجب أني رأيتها تواصل كلامها معي، وما إن تدخل في موضوع حتى تتكلم في غيره دون انقطاع، فلا أحد يكلمها أو يسمعها، وهي بحاجة ماسّة إلى هذا، وعقدتُ العزم على زيارتها في اليوم التالي، ولكن دعوت الله أن أهتدي إلى أمر ما أساعدها فيه.
وفي اليوم التالي وعند صلاة الفجر تحديداً، اغتنمتُ سكون هذا الوقت وجلاله، ورحت أغذي أفكار رأسي بوقود الدعاء، لعلّ وعسى...
وشعرتُ بعد ابتهالاتي وأذكاري، أني أريد أن أعمل أي شيء، وزادني نشاطاً، رؤية أشعة الشمس الذهبية تتسلل إلى غرفتي، مما أغراني بفتح النافذة على مصراعيها، واستنشاق الهواء الرطب الرقيق.
فعملتُ في بيتي حتى لم يبق ما أعمل، واختمرتْ فكرة في رأسي، سررت بها وأطبقتُ عليها، وأذنتُ لنفسي الذهاب إلى جارتي على غير موعد، غادرت بيتي وسرت متباطئة لجمال هذا الجو وهذا الصباح الرائق.
كانت تهب الرياح برفق، كأنها تخجل من دفء الشمس، وكنتُ أرى أمامي مباشرة كيف كان الضباب يتبدد رويداً رويداً، حتى تمنيت لو كان بيتها أبعد بقليل، ولكني وصلتُ بيت جارتي رغم تباطئي، واستقبلتني بحرارة أكثر من ذي قبل، وفي هذه المرة شرعتُ أنا أخوض في الحديث، فحكيت لها عن أولادي، وأنهم مع صغر سنهم إلا أن أعمالهم كبيرة، وأضحكت سنها عندما رويت لها بعضاً من تصرفاتهم، ولكنّي! شكوت لها –وما كان هدفي الشكوى- أني أتعب كثيرا في تربيتهم، وكيف أراقب تصرفاتهم صغيرها وكبيرها، حتى أنني أعلمهم كيف يحبون القراءة، وكيف يحفظون القرآن الكريم، وأتابعهم في مدارسهم، ولا أملّ من متابعتهم في كل الأمور، وذكرت لجارتي أيضاً، كيف أحتال على أولادي الصغار منهم، ومن كان في سن المراهقة، على أن يخافوا عليّ، ويحبوني، ولكن على طريقتهم، وأحببت أن أرى جارتي تتبسم أكثر، فقلت لها كيف كنت أقيل عند الظهيرة وأضع بجانبي غطاءاً، لأرى من منهم سيبادر لوحده ويغطيني، فأثني عليه عمله، وأبيّن كيف أنه حصل على أجر كبير من الله سبحانه وتعالى، أو أني أسعل قليلا أثناء الكلام أو الطعام، وأرى من يسبق الجميع ليأتيني بكوب ماء، وأمدحه. وأحكي لهم القصص القصيرة الهادفة، وهم يحبون هذه الجلسات لأنها كانت تسليهم ويرون فيها المتعة ، وحتى في وقتي هذا أشجعهم على إنهاء دروسهم ليستمعوا إلى قصة جديدة، يبدو أنه راق لي الحديث في هذا الموضوع، فأخذت أتذكر أموراً عديدة كنت أعلمها لأولادي وما زلت.
وشعرت وأنا أحدث جارتي أنّ الإبتسامة لا تفارق شفتيها، وأثنيتُ عليها إذ لم تقاطعني البتة في أثناء حديثي، وعلمت من هذا أنها تحسن الإستماع كما تحسن الحديث.
وبادرتها بالسؤال عن أولادها فقلت لها: كم يبعد سكنى أولادها عنها؟ وهل هناك وسائل اتصال ما بينهم؟، أجابتني أنهم في نفس البلد والهاتف وسيلة اتصال غير محبوبة عندها، لأنها كما قالت لا تفي بالغرض، ولا تروي ظمأها ولا تطفىء لهيب شوقها إليهم، ولكني! اقترحتُ عليها عمل وليمة كبيرة تجمعهم، هذا في البداية، وبعد ذلك تتفق معهم على مواعيد مختلفة ليفدوا عليها، كل عائلتين أو ثلاثة معاً، حيث عائلاتهم ليست كبيرة، على أن تكون وليمةً ايضا في كل مرة، وكلما تقّرب بعضهم من بعض، أحبّوا أن يرو بعضهم تكرارا برغم أشغالهم، أمّا بُعدهم عن بعضهم فلا يزيدهم إلاّ جفاءاً، وسكتُ لحظة قصيرة، لأقرأ تعابير وجهها عندما لاحظت منها شروداً، وبرغم تثبيت نظري على وجهها أثناء حديثي، إلاّ أن عينيها كانتا مثبتتين في الأرض كمن تبحث عن شيء ثمّ هّزت برأسها في نهاية كلامي، ربما وافقتني فيما أقول! لا أدري؟
وغادرتها بعد ان ضيّفتني كعهدها في المرة السابقة، وبعد يومين أو ثلاثة كان المطر قد هطل في غزارة فقمتُ إلى نافذتي كي أنظر إلى الطرقات النظيفة والبيوت الأشدّ نظافة، والى شجرة اللبلاب تحديداً، فاذا بأشباح كأنها تروح وتجيء وتمعّنتُ النظر فإذا هي رؤوس أطفال تطاول إلى النافذة حيث جارتي كانت تقف سابقاً، فسرني ما رأيت جدا ودعوت الله أن يبارك لها في أولادها، وان لا أصل على ما وصلت من المعاناة.