وقضى ربك
وقضى ربك
سمر حامد العامودي
كانت أم العبد لا تتوانى تشكو لجارتها أم أحمد - ألملاصقه لبيتهم الكبير- عن إنكار ولدها البكر عبد الخالق لها، كلما دعتها إلى بيتها، أو جلستا معا في حديقة منزلها، وفي يوم أحست أم العبد بعبء ثقيل على صدرها، فتحاملت على نفسها، وهي التي بلغت تسعون عاماً من عمرها، ولكنها بذلت مجهوداً كبيراً لتغادر غرفتها، وتمشي بضع خطوات، فتصل عند جارتها الطيبة أم أحمد، لتلبي دعوتها على فنجان قهوة الصباح.
أخذت أم العبد تفضفض لجارتها ما تحس به من لواعج وخلجات في صدرها، فذكرت أولاد ابنها الذين كانت تتمنى أن تراهم يكبرون أمام عينيها، وها هم قد كبروا وتعلموا الجفاء من أبيهم، ونزلت دمعة ببطء شديد على خدها الرقيق المهزول حين ذكرت لها أنهم ممنوعون من دخول غرفتها حتى لا يكلمونها، والجارة الطيبة تهدئ من روعها وتدعوها لأن تصبر، وتحثُها على الدعاء لابنها علّ الله سبحانه وتعالى، أن يُليّن قلبه عليها، ويعقل هذا القلب أنّ هذه أمّه التي أنجبته وأرضعته.
أخذت تسترسل في حديثها وكيف عانت الكثير منه قائلة: كان دائما على لسانه هذه الجملة: (لماذا أنت من نصيبي انا دون إخوتي)، على مسمع مني وأكتم الآه حتى لا يسمعها ويتضايق اكثر، وسكتت ام العبد قليلا، ثم تابعت انه كان لا يراها إلا مصادفة، وهي تتحاشى أن تراه لئلا يعنفها ويسمعها ما لا تحب وما لا احد يحب.
لذلك اعتادت أمّ العبد أن تجلس وحيدة أصيل كل نهار على عتبة غرفتها في أيام الصيف الحارّة، وذلك بعد أن يذهب إبنها إلى عمله المسائي، أو عندما يذهب بصحبة زوجته وأبنائه في نزهةٍ ما. فتجلس هذه المسكينة وتفكّر بأولادها الثلاثة، المسافر إلى بلد أجنبيّ ولا تعرف عن أخباره إلا القليل جداً، وأصغرهم الذي يعمل في الخليج العربي، ولا يأتي في السنة إلا مرةً واحدةً، ومجيؤه لا يغيّر من حال أمه شيء، وكم كانت تهمس لجارتها أم أحمد أنّ البعد جفا، كأنها تقول أن طول السفر سبب جفاء قلبيْ ولديْها المسافرين. أمّا أكبرهم وهو الذي تُعاني منْه وتشتكي، وتريد أن تعمل شيئا يُرضيه، ولكن! لا شيء يرضيه أبداً منْها، كما قالت لجارتها يوما، فهو غير راضٍ بوجودها عنْده ويعتبر وجودها حبسٌ لحريّته، ويُقابل كلامها وأعمالها بالصدّ والجفاء مهما كانت، وتقول: أحياناً يغلب عليْه الغضب لسبب ما، فإذا ما رآها مصادفةً دَفعها دَفعاً إلى غرفتها دون أن تنبسّ بكلمةٍ واحدةٍ وكأنها سبب غضبه. وأخذت تحكي عن غُرفتها التي بناها لها منذ أكثر من عشرين سنة، ملاصقةً لبيته الكبير، غرفة صغيرة معتمة! بسبب انخفاض سقفها، وبُعد نافذتها الوحيدة عن امتداد خيوط الشمس ودفئها، ووضع فيها سريراً واحداً مصنوعاً من الحديد، كانت أحياناً تُتمتم وتقول في عتمة الليل عندما لا تجد إلاّ السرير يضم عظمها الرقيق: إنّ هذا السرير قاس كقلب عبد الخالق.
وكذلك كان قد دق على الحائط المُحاذي للنافذه عشرة مسامير لتعليق ملابسها، وفرش لها حصيرة لا تُغطّي أرض الغرفة بالكامل، ولا تقيها برد الشتاء.
قالت: انه بناها لها بعد أن نشبت الحرب بينها وبين كَنتها باسمة، نعم! هذه الكنّة التي اختارتها لابنها بعناية شديدة، من بين عشرات الفتيات ذوات القرابة والمعارف، ولكنْ! أم العبد، فضّلت أن تكون كنتها هي إبنة شقيقتها، فهي تحب هذه الإبنة منذ أن كانت صغيرة، وأحبّت أن تقوي علاقة الأخوة والمودة مع شقيقتها، فخطبتها لابنها، ولكن القدر شاء أن تدوم هذه المودة عدة شهور ليس غير، فقد توفيت الشقيقة. ولماّ كانت الأخيرة هي الأصغر سناً شعرت الزوجة باسمة، بالغيرة من خالتها وأم زوجها، إذ أنها ما زالت حيّة ترزق وأمها توفيت، هذا كان مستوى تفكير باسمة الزوجةُ الشابّة، كما كانت تقول أم العبد فيما بينها وبين نفسها، وصارت تشتكي لزوجها عن أي شيء تحكيه خالتها أو يصدر عنها، وتزيد وتنقص في كلامها ما شاء لها ذلك، في الليل والنهار ولا تبالي، والشكوى تزداد.
وارتسمت يوما ابتسامة ساخرة على شفتي أم العبد حين قالت لجارتها عن ابنها: أنه لم يحل المشاكل ولكن!، ضاق ذرعا بأمه، واضعة يدها المرتعشة على صدرها، قائلة: ولهذا بنى لي هذه الغرفة.
غفر الله لك يا ابنتي: هكذا قالت بصوت مسموع، وبقلبها الطيب، حينما مرَ شريط الذكريات أمام ناظريها، وقبل أن تنام تذكرت كيف أصاب كنتها مرضا أقعدها سنة في فراشها، ومن ثُم توفاها الله تعالى في الأربعين من عمرها.
وهنا تغيرت حياة عبد الخالق، وصعُب عليه تربية أولاده وحده، والبُخل إحدى خصاله السيئة! لذلك ما كان ليصرف على زوجة أخرى تربي أولاده.
وغَلب عليه المزاج العَصبي والتوتر الدائم بعد وفاة زوجته، ابنة أختها، وكُلما أرادت امّه التدخل كي تُخفف عنه قام بصدها واتهمها بأن وجودها نحسٌ في دياره.
ولكن ام العبد لا تستطيع ان تبوح لجارتها بكل ما يجيش في صدرها، فكثيرا ما كانت تطلق العنان لذاكرتها ليس فقط قبل أن تنام على سريرها بل حين تجلس على عتبة غرفتها المعهودة أيضا، أو حينما تريد أن تسلي نفسها فتفزع الى ذاكرتها، فتذكر كيف زوَج عبد الخالق اولاده الاثنين وبعدها ابنته ولماَ تبلغ الستة عشر عاماً، وخرجوا من ديار أبيهم جميعاً، ولم يبق عنده إلا الإبن المدلل نبيل أصغر أولاده سناً وأحبهم إلى قلبه.
وحينما اختلت يوما في حديث نفس، تذكرت ان له عادةً يحمده عليها أولاده جميعاً، إذ كان يجتمع بهم في بيته على وليمة يتخللها المرح ومداعبة الصغار في مطلع كل شهر، وكانت تختلس النظر اليهم اختلاسا، إلى أن كبر أخوهم الصغير وصار يضيق ذرعاً بإخوته وأطفالهم، ولا يرضى بوجودهم. ويختلق الأعذار ويُظهر الملل حين يدعوهم الأب إلى بيته! ومرةً بعد مرة انقطع الأولاد عن أبيهم وما عادوا يأتون الا نادرا.
ويبدو أن ذاكرة أم العبد أتعبتها كثيرا وأورثتها الغم إلى أن تُوفيت في غُرفتها تلك.
ولكن الأيام تسير بسرعة، تتبعها الشهور وتركض خلفها السنين، ويشتد عضد نبيل ويصير شاباً يافعاً قوي البنية قادرٌ على الإعتماد على نفسه. لكنّ الطمع عمى قلبه وأصبح لا يفكر إلاّ في مصلحته فقط، دون وجه حق، وذات يوم أخبر أباه بأنه يريد الزواج وأنّ عليه أن يساعده، لكن الأب كان أضعف مِن أن يساعد إبنه بسبب من حالته الصحية التي أقعدته عن العمل، فقد داهمه مرض السُكري، وعلّةً كانت في قلبه، ما كان ليخبر أحداً عنها. عدا أنّ عُمره لا يساعده على إيجاد أيّ عمل واكتفى براتبه التقاعدي وأجور بعض العقارات القديمة المؤجرة شهرياً، ومؤخراً كتب وكالة لابنه نبيل لتحصيلها من أصحابها دون علم إخوته، وكانت هذه الحيله واحدة من مكائد هذا الأخير، فكثيراً ما يحتال على أبيه ويُظهر حججاً وأعذاراً واهية كي يكتب له البيت بإسمه أو يبيعه إياه على الورق، من أجل عروسه، فأهلُها لا يزوّجونها إلا إذا كان لها بيتاً وحدها، وبعد فَترةٍ من الزمن قصيرة، كتب الأب البيت باسم إبنه كارهاً، ومضت أيام لا تتعدى الشهر دخلت عروس نبيل البيت الكبير.
تثاقلت هذه العروس من الأب شيئا فشيئاً وأضحت في غضون أشهر قليلة،لا تحتمل كلامه بل لا تطيق أن تراه، ودائمة الشكوى لزوجها الشاب الذي بدوره ما يفتأ يَصيح بأبيه يُعنّفه ويَزجره إلى أن وصل بهِ الحال أن قال له يوماً: زوجتي تريد أن تتصرف بحريةً في هذا البيت وهي لا تشعر بحرية كاملة بوجودك فيه، لذلك قررت يا أبي أن تسكن في الغرفه القديمه غرفة جدتي رحمها الله حتى لا يُزعجك أحد، ولا تقلق بشأن نظافتها فقد أفرغتها لك من محتوياتها القديمة وجددت لك أثاثها وجعلتها مناسبةً لك، هيّا معي كي تراها، أُأَكد لك يا أبي أنك سَتُسَر فيها وترتاح كثيراً.
كان الأب يسمع كلام ولده، وهو ينطق به برتابةٍ وهدوء كبيريْن، وأمسك نبيل بيد أبيه كالأطفال واضعاً يده الأخرى على كتفه سانداً له.
وأوصله الغرفة في دقائق معدودة، لكن الأب أبى أن يدخلها، وكانت دمعة تلمعُ في عينه تأبى السقوط وقال: كفى سأجلس حيث كانت أمي تجلس، على عتبة الغرفة فلطالما رأيتها تجلس هنا.