فرع النور

عبد الونيس عبد العزيز

فرع النور

عبد الونيس زغلول عبد العزيز (عماد)

كانا مشغولين في إعداد ما يلزمهما لأداء العمرة عندما قال لها وهو يبتسم : هل ستنوين العمرة عن أحدٍ هذه المرة أيضا ؟!   بادرته بعد أن توقفت واعتدلت : نعم

* عمَّن هذه المرة ؟   

عن واحد من الناس ..

* عن واحدٍ من الناس ؟؟!!    ألا تكفين عن ألغازك تلك... حتى في أداء العمرة ...؟؟

سأعتمر هذه المرة عن ( فرع النور ) ...

توقف هو الآخر ، وهو يضرب إحدى كفيه بالأخرى محملقا فيها... لماذا ؟ فرع النور مرة أخرى ؟؟ ألم تحجي عنه من قبل ؟ ماذا يمثل لك فرعُ النور هذا ؟ لم أرَ ولم أسمع – في حياتي – عن أحدٍ يفعل مثل ما تفعلين مع إنسانٍ فقير لا صلة له بك ولا قرابة ، ولا أعلم معروفًا أسداه لك أو لغيرك!!... أمرُكِ غريبٌ ...على كل حال لك ما تشائين..

صمتتْ برهةً ثم قالت : قد تستغرب – كما قد يستغرب غيرك- الأمر ... لكنني لا أعجب من عاطفتي تلك نحو إنسان مثله ...

نظر إليها في ذهولٍ قائلا : كان مجردَ بائعٍ متجولٍ وقد ذهب إلى ربه منذ زمن ... عجيبٌ والله أمرُك ...

- لا لم يكن مجردَ بائع متجول ..       *  فماذا كان إذًا ؟

- لم أنْسَهُ أبدًا ... كثيرًا ما أتذكره رجلا مسنًّا ذا جسمٍ طويلٍ نحيلٍ .. كان يلبَسُ جلبابًا وطاقيةً وغالبًا ما يسير حافي القدمين...، كان على فقره الشديد وفاقته البادية ذا هيئةٍ  نظيفةٍ منظمةٍ ....

لقد كنت في طفولتي الباكرة أسرع بخطاي المتعثرة لأنظر من شرفة البيت إلى أطفال القرية وهم يدورون خلفه في قطار وقد أذهلتهم الفرحة وفعل بهم السرورُ فِعْلَه... يضحكون ملءَ نفوسهم البريئة، تصفق راحاتهُم الطريّة وهم يرددون خلفه: " فرع النور يا فرع النور.. فرع النور يا فرع النور "؛ كانوا يتمايلون مع نغماته كما الأغصان هبت عليها نسائمُ الربيع   ...

لقد نسيَ الصغارُ والكبار (عبدَ الستار ) وما عادوا يعرفون إلا ( فرعَ النور ) ...

كنتُ أشعرُ بفرحة غامرة حينما كان يتوقف أمامي وهو ينظر إلىّ في شرفتي العالية وعيناه تبتسمان لي، وتغنيان لي ... يصفق بيديه، فيصفق قلبي الغضُّ ... ، ويبتسمُ فأزداد ..

اعتادَ أن يمرّ فيفعل ذلك ...واعتدتُ أن أجري لهفة ً لرؤيته وسماعه...وزاد تعلقي أنه  خصني بأغنية في مثل جسدي الصغير وعواطفي الناشئة...كأنما كانت كلماتُه عصافيرَ تطير حولي فما أملك إلا أن أطير معها :  "  بيتكم  دَا ... هُوَّ دا ... الحلو دا ... أيْوَا دا ....."

فما الذي يمكن أن تمثله الحياة لمثل طفلةٍ في عمري آنذاك ؟

وما عسى تلك البراعم الناعمة أن تعرف من سعادة الحياة ونكدِها إلا بقدر ما ينزلُ على نفوسها من بشاشات الآخرين وكآباتهم ؟

فكم قتل عبوسُ الآباء والأمهات الألافَ من بذور السعادة المختبئة في نفوس أبنائهم...!!

وكم نفوسٍ نشأت لا تعبأ بقُرِّ الحياة وحرّها لأنها لاقت كمًّا هائلا من الابتسامات الرقراقة التي لا تزال مورقة في حنايا نفسها مهما تباعدت بها المسافات ... !

وكم من مربٍ أطلق في نفوس أبنائه التلاميذ سعادة تدوم بنفسه المرحة وروحه الحنون !

وكم من آخرين قتلوا الحياة في تلاميذهم  قبل أن تبدأ؛ لأنهم يعيشون بنفوس أقفرت من الحياة وأرواح لا تعرف من مائها ونضارتها إلا كما يعرف الصبّارُ والشوك....!! 

ياليت كلَّ من يبذل ابتسامة في وجه غيره يدرك أنه يفتح بابا - لنفسه – عظيما من السخاء والصدقة ... كما علمنا نبينا المربي العظيم – صلى الله عليه وسلم ...

كان فرعُ النور يعيش في قرية مجاورة وحيدًا في كوخ صغير مظلم إلا من مصباح كيروسين يلتهب فتيلُه من أول الليل إلى آخره حسرةً على تلك  الحياة البائسة لمثل هذا الرجل وسط قرية كبيرة مليئة بالأغنياء وملاك الأرض...

حتى متى يظل هؤلاء في سجن الحياة  لا يعبأ لهم أحد ؟؟ أكان من ذنبهم أن بسط الله الحياة لغيرهم وقَدَرَها عليهم ؟ ألم يجعل لهم الرحمن حقًا في حياة كريمة آمنة كغيرهم ؟ ألا يكفيهم أنهم مُبتلَون بحاجتهم وقلةِ حيلتهم ؟  لقد كان على شظف الحياة راضيًا وسعيدًا ، وعلى لأوائها ساعيًا متعففًا ...

كان يسير في الطرقات حاملا على يده عُلبةً من الورق المقوى تحوى بعضًا من الحلوى والبالونات  يبيعها للأطفال...   آه ...  هل أجحفَ التاريخُ عندما غضَّ الطرف عن ذكر مثل هؤلاء ؟؟  ...

* التاريخ ...؟؟!!

نعم ... فكتبُ التراث مملوءةٌ بقصص لأناس من العامة لا نزال نقرأهم ونستفيد من حياتهم على بساطتها.. لكنهم وجدوا من يهتم لهم ويعرف حقهم ...

* ربما ...

كانت قد انتهت من إعداد أغراض السفر حينما عطفت على ابنتها الصغيرة بقبلة حانية ، وهالةٌ من النور والابتساماتِ الرقيقة تصحبُهم في طريقهم إلى الحافلة التي سوف تُقِلُّهم  إلى الأرض  المقدسة ....