صفية
عبد الرحمن هاشم
مضيت أهبط درجات سلم المسجد الكبير عقب صلاة الجمعة متوجهاً إلى بيتي وعبارات من الخطبة لا تزال عالقة في ذهني.
اعترض سبيلي عند نهاية السلم فتى في العشرينيات من عمره، حدق في وجهي باسماً ومد يده مصافحاً وقال:
ـ أستاذ محمود.. ألا تتذكرني.. كنت تدرس لي في مرحلة الطفولة.
ابتسمت بدوري وقلت:
ـ حقاً؟ ما أسرع الأيام..
فقال وهو يغضض من صوته:
ـ أنا أحمد.. ووالدتي صفية الكومي!
شددت على يده بحرارة، وتلقيت سيلاً من الذكريات الجميلة، وهتفت:
ـ أهلاً بك، ما شاء الله كبرت يا أحمد، كيف حال الأخت الوالدة وحال إخوتك؟
ـ يسرها أن تراك بعد هذا الزمن الطويل كما سرتني رؤيتك الآن.
وفارقته على وعد بزيارتهم، لكن لم تفارقني الذكريات..
من عشرين سنة شدني منظرها.. امرأة شابة جميلة تقف في دكان تصلح فيه الدراجات..
في ذهابي وإيابي يثيرني الفضول لمعرفة قصة هذه المرأة التي تقبل على العمل بحماسة لا تعرف الفتور.. لكن أين زوجها؟ أطفالها يلعبون حولها.. ولماذا فجأة ارتدت النقاب؟
اشتريت دراجة مستعملة أذهب بها إلى المدرسة.. هذا هو الظاهر، وعند أول فرصة ذهبت إلى دكانها كي تصلحها لي.
قالت: أأنت مدرس؟
ـ بلى.
ـ عندي أحمد لا يعجبني مستواه الدراسي أرجو أن يتحسن على يديك.
انطلقت من فوري أقول:
ـ أهلاً وسهلاً به في أي وقت تشائين.
ووثقت فيّ أكثر، وعلمت منها أن الدكان الذي تقف فيه هو دكان في بيت زوجها الذي أصيب بمرض نفسي فترك العمل واعتزل في منزله بعيداً عن مخالطة البشر فلم يكن لها بد من الخروج للعمل كي تطعم أربعة أبناء لكن لم تسلم من أذى الزبائن ولذلك ارتدت النقاب ولم تسلم أيضاً من أذى حماتها التي تسكن معها وتريد أن تقاسمها إيراد المحل.. وفي ذات يوم قالت لي برجاء:
ـ أستاذ محمود.. لي عندك طلب..
ـ تحت أمرك.
ـ أرجو أن تبحث لي عن عمل، فهذا الدكان لم يعد صالحاً لامرأة مثلي.
واستغرقت أفكر ملياً ثم سألتها؟
ـ هل تعرفين القراءة والكتابة؟
ـ نعم.
ـ ما رأيك في وظيفة "عاملة" في المدرسة الخاصة التي أعمل بها؟
ـ ربنا لا يحرمني منك.. وبالمرة أدرس الإبتدائية.. والله نفسي يا أستاذ.
ـ ربك كبير، ويأمر إذا أمر بالفرج.
ـ ربنا ييسر لي الخير على يديك.
ما زال هم صفية هو همي حتى لاحت الفرصة وتحدثت مع مديرة المدرسة الحاجة خديجة فكان ردها:
ـ أنت تعرف أننا لا نوظف إلا المعارف وأصحاب الثقة.
ـ إنني أضمنها.
ـ إذن فلتأت على بركة الله..
انطلقت أبشر صفية فبكت من الفرحة، وفي أول الشهر جاءتني في حجرة المدرسين لتقدم لي فنجاناً من الشاي بالحليب.
استحالت صفية شخصية جديدة عندما عملت بالمدرسة.. أحبها الجميع لصدقها وأمانتها وزاد من إعجابهم بها اجتهادها وحصولها على الشهادة الإبتدائية ثم الإعدادية ثم دبلوم التجارة،
لكن لم تسلم حياتها رغم ذلك من المنغصات، فزوجها سمير ازدادت حالته سوءاً، وحماتها كما هي، وأولادها يكبرون وتكبر معهم مشاكلهم، والأدهى والأمر أن أحد المدرسين القدامى المطلع على ظروفها جيداً حاول التحرش بها وأصر على تكرار محاولته، فانفجرت فيه مفرغة كل طاقتها السلبية وكل توتراتها مرة واحدة فخنس وانسحب مدارياً سخطه وشدة خيبته.
ـ نسى النذل حكمة "ليس كل الطير يؤكل لحمه".. هكذا قالت لي وهي تسر إلي بالحادثة..
فقلت مدفوعاً بقوة الذهول:
ـ يا خبر أسود.. أستاذ زهير!
ـ يا ما تحت السواهي دواهي!
ـ اكتمي الأمر.. وتجنبيه.
ـ تُرى.. هل يمكن أن يؤذيني؟
ـ لن يستطيع..
ـ والحاجة خديجة؟
ـ ما لها هي الأخرى؟
ـ طلبت مني أن أنظف لها شقتها مرة كل أسبوع..
ـ وهل وافقت؟
ـ لا أخفي عليك، أنا رحبت بأي دخل إضافي، وكانت هي المرة الأولى لي في خدمة البيوت..
ـ عمل شريف وأنت امرأة شريفة..
ـ لكن الحاجة ممسكة يدها بشدة.. هل تتصور أنني بعد أن مسحت وغسلت ونظفت وكويت تمد لي يدها في نهاية اليوم بخمسين جنيهاً فقط؟
ـ يغور المال قليله وكثيره لكن أخشى أن تضيعي صحتك.
ـ عندك حق، لكن ما باليد حيلة، لي أبناء في التعليم وأنت أدرى بتكاليفه.
ـ الذي أحزنني أكثر هو تصرف ابنها..
ـ الكبير أم الصغير؟
ـ لو الصغير، تكون مهضومة!
ـ ماذا حدث؟
ـ ابن الهانم، طالب الهندسة، بعد أن نظفت حجرته نادى عليّ بعجرفة وقال لي: أين حذائي؟ فانحنيت وأخرجته له من تحت السرير.. فجلس على الكرسي ومد رجليه وقال: ألبسيني الحذاء!
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومرت أيام، وتحدث إلي من أثق فيهم طالبين من ينظف بيوتهم فأعطيت رقم هاتفها لهم وأخبرتها أن هناك من قد يتصل بها لطلبها في عمل..
وبعد أسابيع جاءتني تسر إلي:
ـ لم أتصور أبداً أن الناس الكبارة أصحابك يمكن أن تكون بيوتهم ونظام معيشتهم بهذا الشكل.. الحمد لله نحن فقراء لكننا منظمون وبيوتنا نظيفة.. وربنا يديم علينا نعمة الصحة والعافية..
ـ أوضحي يا صفية.. لماذا تتكلمين بالألغاز؟
ـ صحيح من بره هللا هللا ومن جوه يعلم الله!
ـ والله فكرة، يعني إذا أردت الزواج أرسلك إلى بيت من أقصد إلى مصاهرتهم.. أو أترك لك ترشيح أفضل البيوت فأدخلها.
ـ الله يكرمك، أتح لي فرصة رد جميلك..
وبالفعل رشحت لي صفية بيت الدكتور أمين الغنيمي وبالأخص ابنته الصغرى الدكتورة ميادة، فدخلت البيت وأنا ملم بأحوال أهله وظروف حياتهم وكأنني عايشتهم منذ زمن فتم التآلف والتقارب سريعاً وكانت صفية أول المهنئين وقلت وأنا أستدعي لها الأسانسير مودعاً: بركاتك يا أم أحمد.
ومرت سنين، سافرت خلالها إلى الخارج مع زوجتي وفرق الزمان بيني وبين صفية وانقطعت عني أخبارها، وبخاصة بعد تركها العمل في المدرسة، وبعد أن كانت همومها تشغل حيزاً من التفكير والجهد في سبيل حلها، ثم توارت شيئاً فشيئاً حتى تلاشت وحل محلها هموم العمل الجديد والسفر والزوجة والأولاد.
لم يردني إلى هذه الذكريات إلا أحمد ابن صفية الذي عرفني ولم أعرفه.. لكن ما الذي أتى به ليصلي في المعادي وهو وأسرته من سكان فيصل؟ هل انتقل بوالدته وإخوته إلى المعادي؟ ربما.. لكني لا أعرف سوى منزلهم في فيصل.. ليكن ما يكون.. لأذهبن إلى فيصل وبالمرة أزور زوجة خالي.
وأنا مقبل على ذلك البيت، لفت نظري حدوة الحصان المعلقة على بابه.. رحبت بي سارة بعد أن عرفتها بنفسي ثم تبعتها وهي تفتح لى حجرة الصالون على يسار الداخل، وجلست على كنبة منتظراً مقدم أمها من السوق، وثمة نافذة نصف مفتوحة تطل على الشارع ومن خلالها ترى رؤوس المارة.
قلت لسارة بعد أن قدمت لي عصير الجوافة:
ـ في أي الكليات تدرسين؟
ـ كلية التجارة، جامعة القاهرة، الفرقة الأولى.
ـ حدثيني عن أحوالكم وأحوال الوالدة.
ـ توفي جدي منذ خمس سنوات، ولكي تحصل أمي على معاشه لم يكن هناك سبيل سوى أن تحصل على الطلاق من بابا وارتضينا ذلك، وبخاصة أنها تعبت من العمل وأصيبت بالتهاب في فقرات الرقبة، كما أنهى أخي أحمد دراسته الجامعية ووجد عملاً في إحدى الشركات بالمعادي وبقيت أنا ومحمد وعبد الرحمن في الدراسة..
مع رنة الجرس توقفت سارة عن الكلام وقامت مسرعة لتفتح الباب، وما أن وقع بصر حفصة عليّ حتى هتفت:
ـ لا أصدق عيني.. ابن حلال.. أستاذ محمود.. حمداً لله على سلامتك.. لقد توقعت زيارتك بعد أن أخبرني أحمد بأنه رآك في المسجد..
أردت أن أرد تحيتها، لكنها قاطعتني:
ـ صدقني إن قلت لك إنك لم تغب لحظة عن بالي منذ تزوجت وسافرت خارج البلاد وقلت عدوا لي.
ثم بلهجة حانية:
ـ طمني على أحوالك وأحوال الدكتورة والأولاد.
ـ رزقني الله بحنين.
ـ فقط!
ـ خير وبركة.
ـ هل عدتم نهائياً أم هي الأجازة؟
ـ نهائياً.. لكن ماذا عنك أنت؟ ما أخبار صحتك؟ كيف واجهت صعوبات الحياة الماضية؟
ـ الصعوبات لا تنتهي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
ـ لقد أخبرتني سارة عن بعض الأخبار.
ـ الحمد لله، طلقت من سمير وأصبح يسكن مع والدته بالدور العلوي وطعامهما وشرابهما وغسيل ملابسهما أتكفل به..
ـ هل معاش الوالد يكفي؟
ـ لعل سارة قد أخبرتك بالتهاب الفقرات عندي حتى أنني لا أخلع الرقبة الطبية إلا عند النوم فلا مناص من القعود عن العمل فضلاً عن أنني قد تجاوزت الخمسين من عمري..
ـ سأفتتح لميادة مركزاً للأشعة بالمعادي وإذا رغبت فالأمر لا يتطلب منك مجهوداً سوى الجلوس على مكتب وتحصيل الإيراد..
ـ هذا عشمي فيك.. الله يعمر بيتك ويزيدك من نعيمه.. ما رأيك في سارة وبالمرة تجهز نفسها بنفسها وفي آخر اليوم تأتي مع أخيها أحمد..
ـ اتفقنا، وعندي لمحمد وعبد الرحمن عملان آخران..
ـ أين؟
ـ سأقوم أيضاً بإذن الله بافتتاح سنتر تعليمي أحتاجهما فيه عقب انتهاء دروسهما..
لم تتوقف صفية عن الدعاء لي وحين بلغت في دعائها قول "ربنا يرضيك ويرضي عنك والديك" قمت منصرفاً في هدوء مدارياً الدموع التي ملأت عيني.