السي مطيع
السي مطيع
ذ. سعيد عبيد / مكناس - المغرب
اعتاد السي مطيع على الانحناء منذ نعومة أظفاره، كأنه نشأ في أعرق بيوتات القصر. تمرن عموده الفقري على ذلك بسرعة، فأضحى يمارس الانحناء برشاقة وخفة منقطعتي النظير، ودون أن يجد في ذلك أدنى صعوبة، حتى إنه سرعان ما تقوس ظهره، و تنكست هامته. كما كان يتقن الانحناء إتقانا خاصا به، ويؤديه بطريقة لا يستطيعها غيره: لا ينبطح انبطاحا مشينا، ولا يتصنعه تصنعا زائفا كهؤلاء المتكبرين، ولكنه كان ينحني بصدق وفنية، بجمالية متفردة، إستتيك خاص، موهبة فريدة، سبحان من يهب المواهب كما يشاء لمن يشاء! ليس هذا فقط، لقد كان هو كذلك يجبر من تحته على الانحناء له، وإلا فكيف سيورّث هذه الموهبة الفذة لمن خلفه إن هو –لا سمح الله!- أصابه مكروه فأقعده؟ من سيحافظ من بعده على الطقوس الأصيلة والآداب المرعية؟ كان يعلمهم بالترغيب والترهيب كل فنون الانحناء، ويجري لهم –دون أن يشعروا- اختبارات تلقائية تحدد المتفوقين منهم، وهؤلاء الذين يحتاجون إلى دعم خاص، وهؤلاء الذين ينبغي أن يستبعدوا بسبب قاماتهم الصلبة التي لا تلين، ولا تجدي مع ظهورهم مختلف أنواع الزيوت والمراهم، فطول التجربة راكم لديه خبرة محترمة في معرفة طبائع الظهور وأنواعها. وهكذا صار السي مطيع وحده مدرسة في الانحناء، اتجاها مستقلا له خصوصيته وفرادته التي تميزه عن كل مدارس الانحناء الكثيرة الأخرى، وسماته المميزة التي يستحيل معها أن يلتبس بغيره، ونكهته التي يتذوقها الراسخون في ذلك الفن. ليس هذا من زعمي أو مبالغاتي، ولكنه بشهادة كبار علماء الانحناؤولوجيا في البلد على الإطلاق.
ذات يوم وقع بين السي مطيع وأحد مُلاك الجرائد شنآن، فحرض عليه هذا الأخير صحافييه تحريضا كلبيا شرسا، فتخصص كل واحد منهم في نهش جزء منه بالأظفار والأنياب، حيث أثار كل واحد نقيصة من نقائصه، وشبهة من الشبه الكثيرة التي كان صاحب الجريدة على علم تام بها من قبل. لكن الجامع المشترك بين جميع مقالاتهم كان هو تعييره بظهره المحدودب، وهامته المنكسة، من كثرة الانحناء وتقبيل الأيادي والأقدام. ( طبعا تقبيل الأقدام كان من المبالغات التي يدفع إلى أمثالها الحقد الأعمى ).
جن جنون السي مطيع، فأرغى وأزبد، وأبرق وأرعد، واتصل بكبار الشخصيات في الحكومة، فأبدوا تعاطفهم المطلق معه، ولكنهم اعتذروا عن التدخل المباشر السافر؛ فالزمن تبدل: أعين المنظمات الصحفية والحقوقية الدولية وآذانهم مفتوحة عن آخرها، وسمعة الوطن مستهدفة، وأعداء النظام دوما بالمرصاد، ولا ينبغي أن نكون أغبياء فنعطيهم فرصة للنباح من أجل صحيفة لا تساوي شيئا... ومع ذلك كم من واحد منهم حلف له بأنه حين تواتي أول فرصة "قانونية"، فإنه سيستأصل شأفة الصحيفة، ويقطع لسانها الطويل، وبالقانون... "فمن تجرأ عليك أمطيع، لا شك أنه سيتجرأ على أسيادك وأسياده في يوم من الأيام".
لم يقنع هذا الوعيد البعيد السي مطيع، فكرامته قد أهينت، وسمعته مرغت في التراب، ولم يبق سفيه من السفهاء إلا جعل منه أضحوكة أو نكتة يتندر بها في المقاهي وتجمعات الحثالات. لا بد من وسيلة للرد العاجل الواسع، حتى يبرهن للجميع أنه ليس هو الذي تستطيع صحيفة تافهة أن تسفه مكانته؛ لذلك اتخذ السي مطيع قراره. اتصل موظفو مكتب الاتصال لديه بكل صحافيي البلد، وحجزوا -باسمه- ساعة كاملة في القناة الوطنية الأولى، لبث اللقاء على الهواء مباشرة، وضغطوا بكل الوساطات والوسائل لتقطع تلك الساعة بث المسلسل الشعبي المحبوب، حتى يتسنى للرسالة أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ومن كل الشرائح. أما القنوات الثانوية الأخرى، فقد استطاعوا بسهولة أن يضمنوا فيها الإعلان عن "خبر عاجل": "السي مطيع الحَسني يعقد ندوة صحفية تاريخية على القناة الأولى مباشرة، للرد على ما تداولته مؤخرا بعض الصحف المغرضة".
كان السي مطيع قد جند كافة موظفي الدولة الذين يعملون تحت إمرته لجمع كافة الحجج والبراهين الموثقة، حتى يكون الرد قاطعا حاسما، تخرس معه تلك الألسنة الحاقدة إلى الأبد. ولكن البرهان الأنصع، والدليل الأقوى على الإطلاق، هو ما قرر السي مطيع أن يبدأ به الأمسية الصحفية، وأخفاه حتى عن أقرب مقربيه، حتى يكون للمفاجأة وقع السحر الذي يشده الألباب، ويسحر العقول، فتذعن صاغرة لكل ما بعده.
أتدرون ماذا فعل السي مطيع؟ مغامرة بلهاء غير محسوبة العواقب. فقبل أن يرد على شبهة واحدة من شبهات الصحيفة الاثنتي عشرة، وضع الأوراق جانبا، وطلب من الجميع الانتباه، فإنه سيبرهن بالملموس المحسوس على أن كل ما زعمته تلك الصحيفة كان بدافع الحقد الرخيص؛ ألم يدّعوا جميعا أني "كائن انحنائي"، و"لا يجيد الوقوف ولا المشي قائما مستقيما"، "كأنه ولد في مستشفى المنحنى الأفقي المقعر قبل أن ينتقل إلى منحنى الوزارة العمودي المحدب"، "وخرج بقدرة قادر من منحنى البلدية المغلق إلى المنحنى الوزاري المفتوح"، وغير ذلك من الفرايا والتهكمات؟ أليس ذلك مما نشره الحاقدون في الصحيفة التي لا تستأهل في هذا المقام حتى أن أذكر اسمها؟" عند هذه النقطة احتدت أعصابه قليلا، فأضاف بانفعال جملة لم تكن مبرمجة في كلمته، قال: "صدق من قال احذر الكلب الذي تطعمه أن يعضك"... "فهأنذا أيها الحضور الكريم، أيها الصحفيات والصحفيون النزهاء، أيها المشاهدون والمشاهدات، أقف أمامكم كما سترون منتصب القامة، مرفوع الهامة، لتعلموا علم اليقين أن كل ما...".
الذين يعرفون السي مطيع عن قرب حملقوا فيه بعيونهم، وأمسكوا أنفاسهم، وتضاعفت دقات قلوبهم من الإشفاق على ما سيقدم عليه. وهكذا، ودون أن يدع لأحد منهم وقتا ليثبط همته المتوقدة، ولكي تكون الضربة للأعداء سريعة دامغة، كلكمة ملاكم خبير، وبحركة واحدة مباغتة، أقام ظهره المقوس، ورفع إلى الأعلى صدره المنطوي، وشمخ برأسه، فإذا بالكارثة تقع! لقد تيبست عظام الرقبة والعمود الفقري على الهيئة المقوسة التي اعتادت عليها منذ سنين، حتى إنه –لو استشار أطباء العظام- لقالوا له بأنه يستحيل أن ترجع إلى طبيعتها الخِلقية الأولى، لذلك رمت الصحفيات كاميراتهن وصرخن من الهول، وثبّت الصحفيون عدساتهم بتركيز على الجزء الأعلى من جسد السي مطيع، حيث كسر التهور السريع المفاجئ عظام الرقبة والعمود الفقري، بطقطقة كطقطقة آلة صدئة لم تشحم منذ مائة عام، فإذا بالرأس يتدلى على الكتف كالمشنوق، وإذا بالظهر ينهار كقطعة كتان مهترئة رخوة.
كانت الصدمة مريعة، والفضيحة صارخة، إلى درجة أنه لم يتحرك واحد من كل هؤلاء الذين علمهم السي مطيع الانحناء لإنقاذ الموقف، ولا حتى لإسعافه. كما أن الصحفيين لزموا أماكنهم خلف الكاميرات كي لا تفوتهم لقطة واحدة من ذلك المشهد الذي قلما تجود بمثله الفرص. أما هؤلاء الذين أمضى السي مطيع المسكين حياته كلها في ترسيخ طقوس الانحناء بين أيديهم، فقد تبرؤوا جميعا مما حدث، ونأوا بأنفسهم بعيدا عن المشهد، فلا هم حضروا مراسيم الجنازة، ولا هم عزوا زوجته و أولاده، ولا هم قبلوا بإجراء أي حوار حول قضيته. الموقف الإيجابي الوحيد الذي اتخذه واحد منهم، كان موقف وزير الداخلية والإعلام الذي أمر ليلتها في الحين بوقف البث المباشر، فقال في اتصال عاجل مع مدير الوكالة الوطنية للسمعيات والمرئيات: "أوقف حالا هذه المهزلة، عودوا بسرعة إلى المسلسل المكسيكي الذي يحبه الناس".