أم الشهيد
غرناطة عبد الله الطنطاوي
عادت أم أحمد من المقبرة دامعة العين مكسورة الخاطر مفطورة الفؤاد، على وحيدها الغالي أحمد، الذي قنصه وحش برداء بشر.
فقد ذهب أحمد إلى صديقه في البيت المجاور لبيته، ليلعب معه، وعند عودته من البيت قنصه قناص كان يقبع على سطح عمارة جميلة في بلد جميل في مدينة أصيلة –حلب الشهباء- ينثر الموت عبقه كعبيق الزهر، فعبق الموتى هنا زخم بعبق الشهادة..
نظر القناص إلى عيني أحمد فوجدهما تشعّان نباهة وجمالاً، مما أزعج هذا القناص جمالاً وألقاً لم يجدهما في حياته السقيمة، فقد كان هذا الوحش طويل القامة عريض المنكبين، كثيف الشعر كوحش أسطوري، ذو لحية قد غطت سرته، ولكنها أبدت عورته..
فقد جاء هذا القناص من بلاد بعيدة حاقدة على عروبة وإسلام شامخين في سورية العزّ والأصالة..
أطلق هذا السفاح رصاصه فأردى الطفل شهيداً مضرجاً بدمائه الزكية..
أسرع الجيران لسحب جثة الطفل، قبل أن تأتي أمه وتراه فتتعرض لنيران هذا السفاح..
كان العيد على الأبواب، ولم تشترِ الأم بعدُ ثياب العيد لوحيدها بسبب هذا القناص..
وما إن ذهب القناص إلى حيّ آخر لينشر موته الأسود على العباد، حتى نزلت هذه الأم الملتاعة إلى السوق..
اشترت الأم كل ما كانت تريد أن تشتريه لابنها الوحيد، ولكنها كانت تشتري بدل الحذاء عدة أحذية، ومن القميص عدة قمصان وهكذا..
نظر الزوج والجيران إليها بدهشة، وأخذوا يضربون كفاً بكف حزناً وأسى على هذه الأم التي فقدت عقلها بفقدها وحيدها..
وفي أول أيام العيد لبست هذه الأم أحسن ملابسها، وأخذت كل ما اشترته لوحيدها، ووضعتهم في أكياس ملونة جميلة..
نزلت الأم إلى الشارع فلحق بها زوجها خوفاً عليها، كي يرى ما ستصنعه زوجته التي فقدت عقلها بفقدها أحمد..
وقفت الأم عند ناصية الشارع تنتظر وتنتظر..
والجيران من حولها ينظرون إليها والدموع في عيونهم يخبئونها كي لا تراها جارتهم الثكلى..
وفجأة ظهر مجموعة من الصغار يتراكضون، وقد لبسوا ملابس قديمة وأحذية بالية، فالعيد في هذا العام لم يأتِ إليهم ككل الأعوام السابقة، فهم قد نزحوا من بيوتهم، وجاؤوا إلى هذا الحي الذي صار أكثر أمناً من حيّهم، ومنهم من فقد معيله من أب وأخ وأمّ..
اقتربت أم أحمد منهم وسلّمت عليهم، وأخذت تضمّ كل واحد منهم إلى قلبها تقبّله، ومن ثم تعطيه كيساً من الأكياس التي تحملها..
ثم أخذت طفلاً صغيراً وقبّلته بحنان بالغ وخلعت ملابسه، ثم ألبسته الثياب الجديدة التي كانت تحملها، ثم ضمّت الصغير إليها تقبّله وتبكي وهي تنادي:
-أحمد.. يا أحمد!!!
نظر الطفل مدهوشاً وقال:
-أنا عمر ولست أحمد..
استمرت الأم بحديثها:
-يا حبيبي يا أحمد.. هذه ملابس العيد التي اشتريتها لك.. أظنك ستفرح عندما يلبسها طفل صغير غيرك.. يا حسرتي عليك يا حبيبي.. يا حسرتي...