الشهيد الحي
الشهيد الحي
دلاور زنكي
كان بيتنا مصاقباً لدار "سينما شهرزاد" التي آلت فيما بعد إلى رمز للفاجعة والأسى والالتياع والألم. في ذلك اليوم الذي تحولت فيه "شهرزاد" إلى أتون مستعر لم أكن قد جئت إلى هذا العالم، كنت ما أزال في عالم الأرواح، ولكنني علمت بعد حين من الدهر أن شقيقيَّ أحمد و محمداً كانا بين أولئك التلاميذ الصغار الذين اصطلوا بنار السينما حيث استشهد "أحمد"، واستطاع "محمد" أن يخرج وينجو من قبضة الموت مثخن الجراح في جسده الغض وفي نفسيته الرقيقة وعاطفته المرهفة وهو في طور الصبا.. وبعد طول مداواة وعلاج شفي من جراحاته وكلومه البدنية ولكنه لم يشف منها في نفسيته و وجدانه...
لقد كانت نفسه نهباً للأسى والحزن والألم وكانت روحه تتلظى بنيران اللهفة والحنين إلى شقيقه الشهيد الذي كان يترصد أوبته، وكانت أحلامه مشحونة بالأشباح وطيوف الغيلان وكانت يقظته تأوهاً وأنيناً ونحيباً. ولم يكن نومه إلّا لماماً. كان إذا أغمضت الزهور أجفانها وأوت الأطيار الى وكناتها وأوكارها ولاذت النسور والشواهين والطيور الكواسر بذرى الجبال والقنن الشاهقة. ولجأت الوحوش والسباع أو الهوام بأوجرتها وجحورها- يظل مسهداً أرقاً مقرّح الأجفان يجفوه النوم فإذا أخلد إلى النوم لم يلبث إلا قليلاً حتى يستفيق وجلاً مذعوراً ينادي هاتفاً باسم أخيه: وا أخيّاه.. وا أحمداه... لماذا لا تعود إلى البيت – كلنا بشوق إليك.. تعال إلينا.. لقد رجع الجميع إلى بيوتهم فلماذا لم تعد مثلهم؟ أخشى أن تكون قد أصابك سوء. ولكنهم قالوا لي إنك لم تحترق وإنك حي ترزق وسوف تعود. كان يستمر في هذه المناجاة الكئيبة فيستيقظ أفراد الأسرة فرداً فرداً... تستيقظ الأم ويستيقظ الأب وتستيقظ الفتيات الشقيقات فيحاول الجميع تهدئته وبث السكينة في روحه المعذبة ولكنه لا يأبه بهم وكأنه لا يسمع مواعظ أبيه ورجاء أمه ولهفة أخواته ويمضي في مناجاته: وا أحمداه وا شقيقاه.. أين أنت الآن يا أخي الحبيب؟ إرجع الى البيت فستجد ما يسرك... لقد جلبت لك من حلب بعض اللعب والدمى الجميلة ولا شك في أنك ستفرح بها كثيراً.. كان أبي كلما ابتاع لي لعبة سألته أن يبتاع لك مثلها فيفعل وهو يذرف الدموع ولست أدري سبباً لسكب عبراته... إنّ شجرة التوت الضئيلة الصغيرة التي ازدر عناها في الوسط من باحة الدار، وكان والدنا يعلّمنا كيف نعتني بها ومتى يجب أن تروى، قد نَمتْ وكبرت وأورقت أفنانها وتفرعت غصونها... حتى غَدَتْ أيكة سامقة وارفة الظلال.. يافعة الثمر كلما حان موسم جني الثمرات.. أولاد الجيران وأطفالهم يأتون إلينا يتسلّقون جذعها ويصعدون إليها... وفي المساء تحط عليها الطيور محتمية بأوراقها... وتزورها الحمائم البرية واليمام وتبني في أعاليها الأوكار والأعشاش. فتعال الآن لنصغي معاً الى زقزقة الطيور ونخرج الى الحقول لمشاهدة الفراشات التي ترسم بأجنحتها آلاف الألوان .. تعال الآن وعلّمني كيف أداعب القطط وأسابق الأرانب في جربها، وأقطف الأزهار البرية.. لقد نسيت ذلك كله بعد طول غيابك... فهل نسيتنا جميعاً.. هل نسيت حماماتك وهرك الظريف وذلك الجرو الصغير الذي كان يثب حولك ويتبعك أينما ذهبت وهل نسيت رفاق طفولتك وزملاء دراستك؟ هل نسيتني ونسيت أمك وأباك ونسيت إخواتك؟..
كان يطيل القول ويسترسل فيه كأنما يلُهم إلهاماً. فإذا أسهب في الكلام ولم يسمع رداً وأحس باليأس بكى بكاءً مراً موجعاً فأعولت الأم وانتحبت الاخوات وأجهش الأب ولم يستطع كتمان حزنه وألمه فإذا أهل الدار في مناحة لا تنتهي... في مناحة تتجدد كلما هبّ "محمد" من سباته خائفاً فزعاً تعتامه تهاويل الاشباح والغيلان...
فقد ظل يندب أخاه الشهيد في صمت أليم لأنّ أحمد كان له أخاً ورفيقاً وصديقاً، ومن حقك يا أخي محمد أن ترى فاجعتك كبيرة شديدة الإيلام ومعذور أنت في حزنك العميق لأنّ من يفقد ثلاثة من أحبته حريٌّ به أن يكون حزنه عميقاً والتياعه عنيفاً موجعاً، ومن حقه أن يظل أسير عذابه وآلامه المبّرحة لا يخرجه منها عزاء أو سلوان، لا تنفعه التعاويذ والرّقى. حاولت أمي أن تطرد بعض همك مستنجدة بالأدعية والكتابات الروحانية والطلاسم، وأن تطامِن من غلواء آلامك فلم تفلح، وسعى أبي جاهداً أن يكون لك عوناً في مأساتك وقلبه يتفطر عليك شفقةَ وعطفاً نجمع لك الأطباء والأساة وأهل الخبرة والحكمة فما أستطاعوا أن يفيدوك شروى نقير وظل جرحك دون بلسم لأنّ همك كان أكبر من طلاسم وطب الأطباء. ولكنّ والدي لم ييأس ولو استطاع أن يطوف بك كل أقطار الأرض وأصقاع الدنيا لفعل بغية معافاتك من علتك. اصطحبك إلى المدن صغيرها وكبيرها.. إلى حلب مراراً وكذلك إلى دمشق ومدن أخرى وإلى بيروت، فلما رأى أن أمد العلاج قد يطول وأنّ كثرة الذهاب والإياب مرهقة ومضنية انتقل بأسرتنا إلى بيروت، ولم يمضِ الشهر أو الشهران حتى نشأت لك معرفة بمعالم المدينة ودروبها وشوارعها وأزقتها فكنت تجوب بيروت طولاً وعرضاَ ربما ترويحاً عن نفسك ولكنك كنت في الوقت نفسه تمضغ حزنك وتجتر آلامك هادئاً ساكناً صامتاً فإن تلك الأعوام رغم طولها لم تستطع أن تمحو أشباح الماضي المقيتة من ذاكرته وتمسح الذكرى الأليمة من عقله الباطن.
في أحد الأيام وأنت تسير الهويني في شارع خال خوى من السابلة شاهدت سيارة فاخرة تقف ثم رأيت فتاة حسناء ورجلاً مسناً يترجلان منها، وقبل أن يرتدّ إليك طرفك ألفيت سيارة أخرى تقف إزاء الرجل المسن وابنته، وسرعان ما وثبا منها مثل كلبين جائعين مسعورين أمسكا بيد الفتاة وتلابيبها ليزجاها عنوة في مركبتهما فتشبث الرجل بابنته يدرأ عنه الشر، ولكنه كان أوهى وأضعف من أن يفعل ذلك.
وفي الوهلة الأولى أدركت وأنت تنظر إلى المشهد منذهلاً مشدوهاً أنهما يريدان بالفتاة سوءاً. ربما لو كان غيرك في موقفك ذاك وهو ينظر إلى الحدث لتريث ينتظر في فضول خاتمة المعركة أو لأدار ظهره واستأنف سيره وقال في نفسه: هذا أمر لا يعنيك وعليك بخويصة نفسك ودع الناس وشأنهم. ولكن شهامتك ومروءتك أبتا إلا أن تكون نبيلاً كامل الرجولة فاقتحمت المعتدين لكماً وركلاً فوليا الأدبار وفرا مذعورين، مدحورين. وقد أنقذت شرف الفتاة من العار وصنت كرامة الأب. فشكرت لك الفتاة صنيعك وهي تذرف العبرات تأثراً وانفعالاً بكل ما جرى، وأثنى الأب على مروءتك وبسالتك ثناءً حسناً. وتعلقا بك وألحّا عليك أن تمضي بهما إلى حيث تقيم فأذعنت على مضضٍ واستحياء. ومنذ ذلك اليوم كثرت الزيارات إلى بيتنا وكثر اللقاء بين "محمد" و الفتاة. وفي غضون أيام كانت جذوة الحب تستعر في قلبه وتزداد توقداً يوماً بعد يوم، فإذا أبطأت عليه تذكرها ولهج باسمها و تحدرت من مقلتيه العبرات وكأن الكوابيس التي كانت تراوده في أحلامه عن حادثة السينما لم تكن كافية لتعبث بفكره وتبلبل ذهنه وتشتت باله فألقى القدر هذه الفتاة الغريبة في طريقه ليهيم بها عشقاً فيزداد شقاءً وتعاسة وبؤساً لترسم حدود أحزانه وآلامه وتكتمل جغرافية مملكة مأساته الإنسانية. فلما رأى والدي أنّ بمجيئه إلى بيروت كان كالمستجير من الرمضاء بالنار وأن عذاب ابنه قد تفاقم وأنّ المكوث في بيروت لن يكون عوناً في برء "محمد" من أسقامه فأثر العودة بنا إلى عامودا والسكن في دارنا المصاقبة لدار السينما التي وجد فيها كثير من الناس من أمثالنا نكبتهم في أفلاذ أكبادهم، فكانت رؤيتنا لآثارها تهيّج أشجاننا وتعيد إلينا الحزن القديم وتجدد آلامنا. ولاسيما أشجان أمنا الرؤوم وأحزان أبينا العطوف المشفق الذي قضى نحبه هماً وكمداً على ولده الراحل الشهيد "أحمد" وولده الشهيد الحي "محمد" بعد أن بذل كل جهده وجل ماله في سبيل إسعاده وشراء شيء من الراحة له.
وبعد زواج جميع شقيقاتي والتحاقهن ببيوت أزواجهن خلت دارنا من أكثر قاطنيها ولم يبق فيه سوى أشخاصنا الثلاثة أمي ومحمد وأنا، فلما تكاثرت علينا الهموم وألحّت علينا الأحزان واستبدت بنا الذكريات المؤلمة هاجرنا إلى دمشق وأقمنا فيها ردحاً من الزمن حيث انتقلت أمنا إلى الملكوت الأعلى شهيدة ثكل وهجرة وغربة واحتراق بالنيران حين أنقذت بعض الأطفال من براثن جحيم السينما.
كانت أمنا رضوان اللهِ عليها قبيل رحيلها إلى جوار الباري عز وجل تقول: إن هذا "الولد" لن يطول ثواؤه بينكم وسوف يلتحق بي بعد أمد قصير. ولقد صدقت. فقد أضيف حزن آخر إلى أحزانه بعد رحيل أمه، وبدأ يخرج من البيت سادراً هائماً على وجهه.. تائهاً يطوف في أرجاء المدينة الكبيرة لا يهتدي إلى سبيل ولا يعرف طريقاً للعودة إلى البيت.
ومجمل القول فإنه لم يمر العام أو بعض العام حتى انتقل إلى الفردوس الأعلى بين الشهداء الأبرار شهيد حريق وهجرة وفقد أم وأخ شقيق وحب عذري طاهر بريء. وترك غصة في قلوب أهله ومعارفه ومحبيه لا تزول.