أنا .. الماكنة .. النقود
علي الإبراهيمي
أنا , في عالم من اوراق المرحاض المموّهة بالألوان والرسوم , والتي نطلق عليها اصطلاحا ( النقود ) , أعيش كأنني آلة , مع احترامي لمكانة الآلة والماكنة . فانا ادرك جيدا ان مستواي الطبقي هو دون مستوى الماكنة , ويتوجب عليّ ان اخدمها ستة ايام في الاسبوع . لا لشيء سوى لانها السبب في حصولي على المزيد من اوراق المرحاض , التي امسح بها اوساخ المعيشة .
قال لي صديقي , الذي هو انا بكل تأكيد , ذات مرة : كيف تشبه النقود المبجلة باوراق المرحاض التي لا قيمة لها ؟ , فاجبته : وهل للنقود قيمة فعلا ! .
لقد تحيّر صديقي , وراح يطلب المزيد , وفي حالة من البوح قلت له : انت ربما تعرف ان الانسان الاول كان لا يتعامل بالنقد الورقي الذي نعرفه اليوم , فاشار موافقا , لكنه كان يعتمد نظام المقايضة السلعية رحمه الله , وفي مرحلة لاحقة ابتكر فكرة اسرع واسهل في التعامل , تتلخص في سك قطع صغيرة يمكن حملها , تكتسب قيمتها السوقية من قيمتها المعدنية , فلم يجد اثمن من الذهب والفضة , الا ان فكرة طرأت لاحد الاشخاص الاذكياء في خطوة غبية ان يبتكر فكرة ( السندات المالية ) , وهي عبارة عن اوراق تكتسب قيمتها من خلال الضمان العقاري او الزراعي الثابت او المتحرك الذي تمثله , لكن شخصا ذكيا آخر بالتعاون مع مجلس الاشخاص الاذكياء المحتالين تقدموا خطوة اخرى نحو الفراغ , فاتفقوا ان يكون لتلك الورقة ضمان ثابت , يحتفظ به ذلك الكيان الخرافي المسمى ( البنك ) , وبالتأكيد ولانهم اذكياء فقد جعلوا ذلك الضمان شيئا يملكونه هم وحدهم , نعم انه ( الذهب ) . لكنك كما تعي لا يوجد من الذهب ما يغطي نفقات حرب واحدة من حروب هؤلاء الاذكياء على الاغبياء من امثالنا . تعجب صديقي , فلم يجد الا ان يقول : لقد لخبطتني . لا , يا سيدي , لا تتلخبط , فالمسألة بسيطة , انهم كما قلنا اذكياء , فاتفقوا على امرين : ان يجعلونا اكثر غباءً , وان يستخدموا اوراق المرحاض كعملة نقدية , دون اي ضمان ثابت او متحرك , وللامر الاول اعطاهم ( السيد ) صندوقا يغلفون به عقولنا الغبية , اسموه ( التلفاز ) , وللامر الثاني جعلوا اوراق المرحاض الخاصة بهم معيارا لكل النقد في العالم , فاصبح مساويا لقيمة ورق المرحاض الخاص بهم .
صديقي راح يومئ للتوضيح , فرحت شارحا : صديقي العزيز , عندما تطلب الحكومة نقودا من ( السيد ) ماذا يحصل ؟ , سوف يصدر السيد اوراقا مرحاضية باسم ( السندات ) , تتجه نحو الجهة المختصة بالرسوم , فتقوم بدورها بجلب اوراق اخرى , وتلونها وتزينها برسوم معينة ترمز لحضارة السيد , ثم تقوم بمنحها للحكومة , مقابل نسبة من الفائدة . قال صديقي : وما المشكلة ؟ , فاجبته : هناك مشكلتان : الاولى ان هذه الاوراق منذ الربع الاول للقرن العشرين - وتمهيدا لحرب كبيرة لا يسدها الضمان الذهبي - قاموا بالغاء التوقيع الذي كان على ظهرها , والذي يتعهد بامكانية استعادتها كذهب , وترجمة ذلك انها اصبحت عبارة عن ورقة بلا ضمان , يعني ورقة مرحاض , تأخذ قيمتها السوقية من خلال توقيع ( السيد ) فقط , اي ان السيد اصبح هو الضمان , ولان باقي النقد في العالم جعل نقد ( السيد ) , والذي اسماه ( العملة الصعبة ) , ضمانا لنقده , اصبح جميع النقد عبارة عن ( اوراق مرحاض ) . اما المشكلة الثانية فهي ملفتة للنظر , وتتعلق بالفائدة التي يطلبها السيد على اوراقه . هنا قال صديقي : لا بأس ان يأخذ السيد نفعا مقابل جهوده . فقاطعته : صديقي , انت لازلت لا تفهم , فتلك الفائدة غير موجودة في الواقع , عندما يطبع السيد 100 ورقة مرحاضية مثلا , وله فائدة مقدارها 10 ورقات مرحاضية , فيجب على الحكومة ان تسدد 110 , و لكن الاوراق الموجودة في السوق هي ( 100 ) , و هي الاوراق التي طبعها السيد , فمن اين تأتي الحكومة ب ( 10 ) الفائدة ؟ . قطّب صديقي حاجبيه , فتداركته مهدئا : اسمع يا صديقي , سيكون ( السيد ) هنا كريما , ويبقي تلك الفائدة ( دينا ) برقبة الحكومة , وهي بدورها سوف تطلب المزيد من اوراق المرحاض الملونة من السيد , لتسديد دينها , فيطبع السيد , وتزداد فوائده , ويزداد الدين على الحكومة , فتلجأ حينها لاستقطاعه من ثروات ( الشعب ) , ولكن لان الدين من المستحيل – علميا – تسديده , سيظل الشعب والحكومة مدينين للسيد دائما . ومرورا بحالات الطوارئ والحروب , سوف يصل الدين الى حد خيالي , فتعمد الحكومة الى التقشف , ولكنها لن تسدد دينها , فلتغي الكثير من الوظائف , وترفع الدعم عن الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية والصحية .
ولان السيد يعلم ان الحكومة لن تسدد دينها , فهو يعلم ان اللعبة ( الوهمية ) ربما تنكشف , ويتحرك شعب حكومة السيد , لذا ساعدها معلوماتيا , فاخبرها انها يمكنها ان تقاوم اذا استطاعت ان تستحوذ على ثروات وموارد الامم الاخرى . استجابت الحكومة لرأي السيد وبدأت فعل ذلك , تحت تغطية فضائية عبر اسلحة ( التلفاز ) المتقدمة .
صديقي , راح متسائلا , في التفاتة ذكية منه : وما علاقتنا نحن هنا بما يقوم به السيد هناك ؟ , فاجبته : يا صديقي , اخبرتك سابقا اننا نقوّم نقدنا باوراق السيد , هذا اولا , وثانيا فالسيد – ولانه اشره واشرس مخلوق عرفته الارض – قرّر ان يعمم نظامه ( المتحضر ) على الامم المختلفة , فانشأ ( صندوقا ) , الداخل فيه لن يخرج ابداً . فصرخ صديقي : اي مجنون سوف يدخل ذلك الصندوق ؟ ! . تبسمت , وقلت له : ان الفقراء دائما مجانين , اما الاغنياء فيمكن ان يدخلوا اذا سلموا قيادهم لقائد سكران او شيطان . وهناك آلية اخرى , تتم بزرع خيوط تعمل مع الصندوق داخل اجساد الامم , ويا حبذا لو كانت تحمل الوانا تشابه الوان الامم , او انها كانت جزءا من تلك الامة .
قال صديقي : طيّب , وما علاقة ذلك كله بالماكنة , وهي كما نعلم اعطاناها العلم لتخدمنا ؟ . ضحكت كثيرا , واجبته : وكيف تكون الماكنة لخدمتنا , ونحن نخدمها ليل نهار , وكل خمسة اشخاص من بني البشر تقريبا يخدمون ماكنة , فيزيتونها وينظفونها ويجملونها , لا لشيء سوى انها ساهمت في طرد ما يقارب 60 شخصا منهم ! . لكن هي ربما تستحق هذا التكريم , لانها ساعدت ( منظومة السيد ) في التخلص من تكاليف هذا العدد من بني البشر , كما انها سوف تطرد المزيد , ولن تستجيب الحكومات لهم , فلن يكون حينها موجودا غير السيد ذاته .
في لحظة غباء من صديقي , قال : ان المنظومة التي ينشئها السيد خطرة , فكيف سيحميها ؟ . اجبته : بالعسكرة , المزيد من العساكر , وسوف نرى مستقبلا – كما هو واضح من الحاضر – مزيدا من الجنود , فهي الوظيفة الوحيدة التي لازال مفتوحة .
صديقي : ولما هذا كله ؟ .
: هذا ما اراده ( السيد الاكبر ) , فقد سمعت انه اعور لايرى الا مصلحته فقط . وبغير هذا النظام لن يكون هناك عبيد .
صديقي : كيف ؟
: تزايد المديونية والتضخم وتسريح العمال سوف يخفض الاجور , وبالتالي المزيد من العبيد زهيدي الاجور .
قال صديقي : لقد تذكرتُ الآن نكتة ظريفة وعلى شكل تساؤل ساقه قريب لي , ( من يعمل اكثر , نحن ام الحمير ؟ ) . حدقتُ في وجهه : هل ترى انها نكتة ! , لا يا صديقي , انها الحقيقة .
نحن من يعمل ستة ايام في الاسبوع , من الساعة السابعة صباحا وحتى الثالثة مساءاً , وساعتان للطريق , يكون المجموع ( 11 ) ساعة . وسنكون حينئذ متعبين , فننام ساعتين اضافيتين عصرا, اما ليلا فنومنا يجب ان يكون مبكرا , الساعة التاسعة , لنستيقظ في السادسة صباحا , فيكون المجموع الكلي ( 21 ) . تتبقى ثلاث ساعات , واحدة للاهل , وواحدة للطعام , وواحدة للمخدر الذي يهون علينا كل ذلك , من خلال مجموعة العاب بهلوانية , والذي نسميه ( التلفاز ) .
وفي النهاية تكون مكافئتنا مجموعة من اوراق المرحاض , التي لا يعطيها قيمة سوى توقيع ذلك الذي يدير النظام , والذي لو امتنع عن التوقيع سوف ينهار النظام , وهو نظام هائل ومعقد جدا , اسمه ( الوهم ) .
قال صديقي مرتعبا : نحن عبيد ! . نعم نحن عبيد , لاننا لو تسببنا بعطل الماكنة بالصدفة سوف نتعرض للعقوبة , والتي تصل الى السجن , فيما لو اصابتنا الماكنة نحن بعطل سوف يستبدلوننا بخدم جدد . فمن منا وجد ليخدم الثاني .
صديقي : اذن كيف يعمل النظام ؟ .
: يعمل عبر تحريك الموارد والاشخاص , فتدور جميعا حول مركز واحد , اسمه ( السيد البنكي ) , والذي سوف يمولها باوراق المرحاض , التي تستند الى تأريخ من وجودها السابق الحقيقي , والذي تم استبداله بحاضر من الوهم , من اللاضمان . يعني ان الحافز معنوي , لا حقيقي , الاعتقاد بوجود ضمان , خدعة كبيرة من الوهم , تكفي لتحريك النظام , ادعاء السيد ان الامور بخير .
هو بتلك الاوراق المرحاضية التي لا تساوي شيئا واقعيا يستحوذ على الثروات والموارد , وعلى جهود البشر , ليعيد دورانها داخل المنظومة , وربحه انها يدير اللعبة دون ان يدفع او يبذل شيئا . هو يشتري المؤسسات العامة والخاصة , كذلك هو يشتري الدول , تحت غطاء حرية التجارة , وغطاء من الاستعمار والاستهتار , وايضا ولتسهيل مهمته يقتل المؤسسات والكيانات الصغيرة والمحلية , وبتعاون الشياطين , الذين نسميهم ( ساسة ومسؤولين ) .
تصور لو انك اخذت قرضا بقيمة 10000 ورقة , لبناء منزل , حينها ستطلبه من الحكومة , او اي جزء من النظام , وبعد جهد ستناله , مقابل دفعك لفائدة مقدارها 800 ورقة , وطبعا سوف تكون الحكومة قد اخذته من السيد , مقابل 400 ورقة مثلا , انت حينها ستعمل لدى احدى مؤسسات النظام لتسديد قرضك , حيث ستأخذ اوراقا مرحاضية , لتعطيها للحكومة , التي سوف تعطيها للسيد , وبالتالي اصبح مجهودك ومجهود الحكومة ربحا للسيد وحده . فانت قد عملت عند السيد , دون مقابل ازاء جهدك .
ان للسيد بناءً هرميا , يقوم على قاعدة رباعية , تجده مرسوما على احد اوراق المرحاض , وكما تعلم فان للقاعدة الرباعية اركان , هي ( الشعب , الحكومة , الموارد , الماكنة ) , وقد وصل بناءه هذا قريبا من القمة , وقد بناه بطبقات خيالية العدد من اوراق المرحاض , ولو تم وجلس فوق قمته ( السيد الاكبر ) سوف يقضى علينا جميعا .
صديقي : لماذا ؟
: لاننا حينها لن نستطيع التنفس , بسبب الطبقات الهائلة لاوراق المرحاض فوقنا .
صديقي : والنتيجة ؟
: سنصل جميعا الى لحظة يعجز فيها الجميع عن تسديد ما بذمته من اوراق المرحاض , بعد ان تصل تلك الاوراق – بسبب التضخم – الى اللاقيمة .
صديقي : والحل ؟
: العودة الى الذات , الى نظم تخضع لارادتنا , الى ضمانات حقيقية .
صديقي : نعم ..
: ثم خلق مجموعة من دوائر المنظومات الصغيرة , تلقف ما يأفكون , تلتهم هرم السيد , فيكون حينها مشتت الذهن , ثم تلتحم تلك الدوائرة في دائرة اكبر .