ماذا يحصل إذا استبدلنا الفتحة بالسكون؟

ماذا يحصل إذا استبدلنا الفتحة بالسكون؟

قصة قصيرة من حرب حزيران

طريف يوسف آغا

[email protected]

 حين كنا صغاراً، كانت كل الكلمات (الزفرة) موضوعة على (اللائحة السوداء) الممنوعة من الاستعمال في بيتنا الدمشقي الواقع في أحضان جبل قاسيون. وقد كان أهلي دائماً ينبهون علينا أن مانسمعه من تلك الكلمات من أولاد الحارة أو المدرسة، علينا أن لانردده، وبالتأكيد أن لانأتي به إلى البيت ... وإلا ... وكانت أمي تحتفظ دائماً بعلبة من (الفليفلة الحدة) تهددنا باستعمالها في حال حصل وسمعت منا تلك الكلمات. وقد كبرنا وأصبحنا أطول منها ولا أذكر أنها احتاجت لاستعمالها ولو مرة واحدة.

 كنت في الصف الثالث الابتدائي حين وقعت حرب حزيران عام 1967 وخسرنا بنتيجتها مرتفعات الجولان. فبدأ اسم (حافظ الأسد) الذي كان وزيراً للدفاع حينها يتردد على ألسنة الناس بأنه المسؤول عن تلك الهزيمة كونه من أصدر الأوامر للجيش بالانسحاب الكيفي وبدون قتال قبل وصول الجيش الاسرائيلي إلى مدينة القنيطرة. وقد جرت أحداث هذه القصة القصيرة في إحدى أمسيات صيف نفس العام حين كنت جالساً بين افراد أسرتي أمام شاشة التلفزيون، أفعل مايفعله كل الأولاد في تلك السن: مشاهدة مجموعة من أفلام الرسوم المتحركة. ولكن وما أن انتهت فترة الأطفال حتى تم عرض مجموعة من الاعلانات الرسمية المكتوبة (أي من دون مذيع) والخاصة بالعقارات على الشاشة. وبالرغم من أني لم أفهم الغرض من الاعلان، إلا أنه لفتت نظري بين سطوره الكلمة (الزفرة) التي تشكلها أحرف (ع ر ص ا ت)، وأنا هنا تقصدت كتابتها مفرقة كي لاأخدش الحياء العام للقارئ، في حين أنها أتت في الاعلان قطعة واحدة. وبما أن الكلمة أتت في الاعلان أيضاً غير مشكلة باشارات الحركات الصوتية التي تختص بها اللغة العربية، وهي الاشارات التي قد تغير المعنى أحياناً من السالب إلى الموجب وبالعكس، فقد لاحظت أنها من تلك الكلمات الموجودة على (اللائحة السوداء) الآنفة الذكر. كما أنها من تلك المفضلة في قاموس لغة أولاد الحارة والتي يرددونها صباح مساء حتى تكاد تكون بمثابة التحية الاعتيادية المتبادلة فيما بينهم.

 التفت إلى أهلي بسرعة وسألتهم قبل أن تتغير الشاشة ويزول الإعلان: كيف تقوم جهة حكومية رسمية يفترض بأنها تمثل قمة الأخلاق والتهذيب والمثل العليا بوضع (كلمات بذيئة) على شاشة قناتها التلفزيونية؟ ثم أسرعت إلى الشاشة وأشرت باصبعي إلى الكلمة حتى لاألفظها وأتعرض لعقوبة (الفليفلة الحدة). وهنا تدخل أبي بسرعة بديهيته وقال لي مبتسماً: هذه الكلمة نفسها، إذا أتت بفتح الراء فتعني العقارات الخالية من البناء، أما إذا أتت بتسكين الراء فعندها سيكون لها المعنى البذئ.

 كانت (الحادثة) ستنتهي هنا ولن تصل إلى مستوى (القصة) لولا الصدفة التي شاءت أن يكون أحد أقاربنا في زيارتنا ذلك المساء في ذلك الوقت. وبالاضافة لروح النكتة المعروف بها قريبنا هذا، وهو عاقل بالغ ورب أسرة، ، فلم تكن (لائحتنا السوداء) إياها والمعمول بها في بيتنا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد. وبالرغم من أن تفسير أبي كان صحيحاً مئة بالمئة لغوياً، وكان قريبنا يعرف ذلك، إلا أنه أراد أن يعبر عن وجهة نظر لم يقدر على كبتها في صدره. فقاطع أبي وقال موجهاً الكلام لي مباشرة بلهجة فيها مزيج من المزح والجد: عمي، لاتصدق ماقاله والدك، فهو مهذب ولايريدك أن تعرف الحقيقة الغير مهذبة. فنحن هنا نعيش في بلد تحكمه وتتحكم به ال (ع ر ص ا ت) بتسكين الراء وليس بفتحها، وهم من سلموا الجولان وهم موجودون في كل مفاصل الدولة بما فيها التلفزيون، وقد وصلت بهم الوقاحة لاستعمال تلك الكلمات التي تعبر عنهم حتى في إعلاناتهم الرسمية على شاشتهم.

 قال قريبنا هذا ثم غرق بالضحك، أما أبي فقد شعر بالاحراج من ذلك الجواب وخص الضيف بنظرة فيها شئ من العتاب كونه لفظ كلمة (ممنوعة) وبالفم المليان. من جهتي، فقد وقفت أنظر إليهما منتظراً الجواب الصحيح، وكي لايفسد أبي على ضيفنا الجو المرح الذي خلقه بجوابه والضحك الذي تبعه، فقد التفت إلي قائلاً: من الناحية اللغوية، فجوابي هو الصحيح، ولكن من الناحية العملية، فجواب قريبنا. ألم تسمع في درس الاعراب بتعبير (يجوز الوجهان)؟ قلت نعم، فقال: هذه الحالة هي واحدة منها.

 مضت سنوات على تلك القصة، وحدث بعد تخرجي من الجامعة أن كنا في جلسة عائلية تضم قريبنا إياه، فذكرته بالقصة إياها وبالكاد تذكرها، فاقترب مني وهمس في أذني أنه كان يعني تماماً ماقاله يومها. ثم أضاف أنه نسي أن يقول حينها أن ليس فقط من يحكمون بلدنا هم من تنطبق عليهم تلك الكلمة ولكن كل من يعمل معهم ويعرف في قرارة نفسه أنهم كذلك، فهو شريك لهم في الجريمة واللقب.