البحث عن فكرة
حسن لختام - قاص من المغرب
كنت أقضي جل وقتي داخل مكتبي ، المزدحمة أركانه بكتب وروايات وقصص من مختلف الأجناس الأدبية. كنت أبقى متسمرا، لفترة طويلة، أمام الحاسوب ،علني أنهي ولو مشهدا واحدا من إحدى سيناريوهاتي السينمائية, خاصة سيناريو" الأسير".كنت دائما في صراع مع الشخصيات والأحداث التي ينسجها خيالي، والتي كانت لا تريد الخضوع لي وللقالب الدرامي التي كنت أضعها فيه..شخصيات كانت دائما ثائرة ضدي ،غير معترفة بسلطتي, تحتقرني وغالبا ما كنت كأني أسمعها تقول ساخرة مني : أنت عاجز على أن تخلق لنا عالما نعيش أحداثه ومغامراته ولو لفترة من الزمن. من عادتي, أني كنت أضع سلة المهملات بالقرب مني; فغالبا ما كنت أمزق الورقة التي أكتب عليها مشهدا أو مشهدين, فأتوقف مرغما بسبب عجز لعين يسكن أعماقي .
بعد عملية التمزيق, كنت كأني أسمع قهقهات الشخصيات ساخرة مني ومن عدم قدرتي على الإستمرار في الكتابة..كنت كأني أسمعها تقول باستهزاء كبير: - خيالك قاحل وضيق كمكتبك هذا. ذاك العجز القاتل كان يثير أعصابي ، فألعن نفسي بعنف و عصبية قائلا: فعلا، أنا عاجز كل العجز عن فعل الكتابة. قضيت سنوات طويلة في حصار حصونها الموصدة ولم أستطع دخول مملكتها الأسطورية. هل أعيد أدراجي ؟، أم أفكر في حيلة كحيلة حصان طروادة لدخول مدينتها الساحرة؟, أم أهجر نهائيا عالمها الغامض والمعقد؟ .لكن ، ماهو سبب هذا العجز اللعين الذي يسيطر عليّ، و يحول بيني وبين فعل الكتابة؟. لماذا لا أمتلك الخيال الواسع الذي يجعلني قادرا على الإبداع في عالم الأدب بسهولة مطلقة؟. أسئلة عميقة كنت أطرحها على نفسي..أسئلة كانت تتعبني, وتقض مضجعي. في إحدى الليالي, قررت الذهاب الى إحدى الحانات المفضلة عندي. كنت أريد أن أنسى هموم الكتابة ومتاعبها . جلست في أحد الأركان الخلفية من الحانة، حتى أتمكن من مراقبة كل شىء فيها..شخصياتها إكسسواراتها، وكل ما يدور بذاخلها. كانت الحانة ممتلئة عن آخرها. أشخاص كثيرون يرتادون الحانات ليلا للتفريج عن متاعب يومهم ومشاكلهم التي لاتنتهي , وللتحدت بكل حرية عما بداخلهم. الخمرة، تلك المعشوقة الازلية، تجعلنا فعلا نفرغ ما بداخلنا من آهات ومكبوتات وعقد ونزوات..إننا نؤدي البعض من طقوسنا فليباركنا الإلاه "ديونيزوس". في تلك الحانة كنت أرى الأشخاص على حقيقتهم بعيدا عن الكبرياء والتصنع، فأخلاق الإنسان الحقيقية تتجلى عند احتساء النبيذ..كانت الأقنعة تتساقط الواحد تلو الآخر..كنت أحس بمشاعر الأشخاص, ببرائتهم وطيبة نفوسهم ..ما أروع أن تستمع الى الأشخاص وهم يتحدتون لغة أعماقهم وذواتهم الداخلية. كم تبهرني تلك الأجواء الليلية السحرية ذاخل الحانة..ضجيج الزبناء ..رنين دراهم بائعي السجائر بالتقسيط ..صياح بائعي الفول والحمص وموسيقى تنبعث من "راديو كاسيط" كان موضوعا بعناية فائقة على أحد الأركان العلوية للحانة. الكل كان يؤلف سيمفونية ليلية عجيبة ليست كباقي السيمفونيات. بدأت أشرب بكل حواسي،فسحر المعشوقة الازلية يضاهي سحر امراة جدابة وفاتنة.. سحر يأسر النفس والقلب، ويجعل المرء يكتشف إكسير السعادة والوجود. سكرت بما فيه الكفاية. أجهزت على كل المبلغ الذي كان بحوزتي, ولم يبق منه ولو فلس واحد. سكرت معي حتى أفكاري وشخصيات قصصي, ربما تفصح لي عن سبب عجزي عن إخراجها من العدم الى الوجود. غادرت الحانة .كان الجو مضطربا ينبىء بنزول المطر.. حتى السماء شحيحة كشح خيالي. كانت الشوارع فارغة إلا من مرور بعض سيارات الأجرة وبعض دوريات الشرطة. توقفت لأنادي على سيارة أجرة تأخدني الى بيتي ; فقدماي كانتا لا تطيقان المشي. تذكرت أن جيوبي خاوية كخواء خيالي، فأطلقت العنان لقدماي رغما عنها لتأخدني إلى مسكني , كما أطلقت العنان لخيالي علّه يجود علي بفكرة أجعلها موضوع قصة سينمائية أو رواية أدبية. بدأت أمشي ببطء تائها في صحراء خيالي علّني أعثر على واحتي المفقودة أسقي منها عطشي. كنت تارة أمشي بخطوات بطيئة، وتارة أخرى بخطوات سريعة..كنت أمشي على إيقاع أحداث القصص التي ينسجها خيالي..عندما تتصاعد الأحداث أسرع في المشي, وعندما تتراجع ثثاقل خطواتي.ما يحيرني هو أنه عندما أكون خارج مكتبي يراودني خيالي ويطاوعني, فيجود علي بقصص أنسج أحداثها بسهولة مطلقة , بل أشعر أني أتحرّر من الرقيب الذي يسيطر عليّ وعلى خيالي. لكن ,عندما أذخل مكتبي فغالبا ما تختفي الأحداث, وتتبخر الشخصيات ,ويشهر الرقيب عليّ سيفه المسلول. بعد فترة من الزمن, وجدت نفسي في الحي الذي أسكن فيه. كان الحي هادئا، إلا من مواء بعض القطط ونباح بعض الكلاب المتسكعة. تلك اللحظة لم تكن لي رغبة في النوم, فقررت أن أتجول قليلا في الحي, لعلّ سكونه وهدوءه يساعداني على اصطياد الفكرة التي أبحث عنها. بدات أمشي تارة يمينا وتارة شمالا ، دون وعي. لحسن حظي عثرت على الفكرة. أعجبتني , فبدأت في تطويرها وإعادة خلقها وزرع الحياة في شخصياتها. ماأعظم عملية الخلق والإبداع. عدت أدراجي باتجاه بيتي. امتلكتني رغبة جارفة في الدخول الى مكتبي وتحرير ما جاد به علي خيالي في تلك الحظة السحرية من اليل. فجاة, توقفت بالقرب مني دورية للشرطة. نزل منها شرطيان بخفة فائقة، كأنهما يبحثان عن مجرم خطير. خاطبني أحدهما قائلا: ماذا تفعل في هذا الوقت المتأخر من الليل؟, ثم أضاف بنبرة حادة: بطاقة هويتك. بدأت أفتش باندهاش في جيوبي الخاوية عن بطاقة الهوية قائلا: أنا ابن الحي..أبحث عن فكرة.خاطب أحدهما الآخر: .سكير..معربد. سنأخده معنا للتحقيق في هويته. احتجيت عن قولهما بشدة، لكن الكلمة الأخيرة كانت لهما.