المقامة الدُّخانيَّة
د. محمد عناد سليمان
حدَّثنا وليدُ بن عُتْبَةَ قال: بينا أنا بالرياض أسير، أميسُ فيها كالأمير، حتَّى أدَّاني المسير، إلى جمْعٍ فيه من النَّاس الكثير، فغصتُ فيهم بين طويل وقصير، حتَّى وصلتُ إلى رأس الجمع الغفير، فإذا برجلٍ يصيح، سقيمٍ غيرِ صحيح، هزيلِ الجسم كأنَّه شاة ذبيح، أيُّها النَّاس: إنَّ التَّدخين مضرَّة، والإقلاع عنه مسرَّة، وجيب مُدْمِنِهِ حرَّة، وصحته غير مستقرَّة، وحاله كما ترون كحالي، يجرُّه التَّدخين إلى الوبال، ويجعله مفلسَ الصِّحَّة والمال، وإن كان ذا أسرةٍ وعيال! فالخلاص الخلاص، ((ولات حين مناص))، فتركُهُ الوسيلة الشَّافية، جديرة بالتَّطبيق كافية، لنظفرَ بالصِّحَّة والعافية.
فقلت له: مَن أنت يا ذا الجسم الهزيل؟ والحظِّ القليل؟ والرَّجاء النبيل؟ قال: أنا أبو النَّورس، كنتُ في كلِّ مجلس، أدخِّنُ ولا أتحسَّس، حتَّى وصلت إلى الأخير من النَّفَس، فلم أستطع منه نوما، وكلُّ قاصٍ ودانٍ أسمعني لوما، فإيَّاك إيَّاك التَّدخين، فهو للجسم غيرُ حصين، وللمال غيرُ أمين، فاتَّخذه عدوَّك المبين.
الْمَقَامــة العِلْمِيَّـة
حدَّثنا وليدُ بن عُتْبَةَ قال: ذهبتُ مع رفاقي أتَمَشَّى، وكنَّا بعدُ لم نتعشَّ، ونذكر شاعريْنَا لبيدًا والأعشَى، في روضة هي الثانية من الرياض، وفي عاصمة السعودية الرياض، مدينة العلم والثَّقافة، لِمَن أرادَ حقًّا أو أراد إنصافَا، منسوبة إلى ابن أبي قحافة، يسودُ بيننا الأمنُ والأُنْس، حتَّى وصلنا إلى حيِّ القدس، فإذا برجلٍ حولَه طائفةٌ من الأُمَم، إلى جوارِ مدرسة يُقال لها الأرقم، وقد أوتِي خيرًا كثيرًا والله أعلم، ينادي ويقول كلامًا غير مبهم: أيُّها النَّاس، إنَّ الجهل داءٌ مسموم، وفي الورى ملومٌ مذموم، وأثرُه لديكم في النِّهاية معلوم، فهو يهدم بيوت العزِّ والشَّرف، ويُذلُّ صاحب الغنى والتَّرف، وقد جاءتنا أخبار مَن سَلف، مَن ترك الحقَّ بعد إذ عرف، وعن جادّة الصَّواب عزف، ومن حضيض الجهل غَرَف، فابتعدَ عن العلم وانصرف.
ألا فإنَّ الجهل مرضٌ عُضال، يهزُّ الثَّقيل من الرِّجال، ولا يجرُّه إلا إلى الوبال، فشدُّوا للعلمِ الحبال، وآذنوا إليه بالتِّرحال، فهو الدَّواء العجيب، وطلبُهُ غيرُ مُعيب، فهي سُنَّة الحبيب، ((زَاحِمُوا العلماءَ بالرُّكب))، وانْهَلوا من الْمَعين الذي لا يَنْضَب، فاسمعوا منه أيُّها الملأ وعُوا، ((إِذَا مررتُمْ برياض الجنَّة فارتعوا))، وتزوَّدوا من خير الزَّاد واقنعوا.
فاقتربتُ منه في وجلٍ واحترام، وقوَّة عزيْمَةٍ وإقدام، فقلتُ له: مَن أنت يا ذا اللِّسان الرَّزين؟ والقولِ المبين؟ والرَّأي المتين؟ قال: أنا أبو النَّورس، في رياض العلم أجلِسْ، أنتقي منها الأفضلَ والأنْفَس، وأعلِّمُ ما أسمعُ ولا أبخس، فتنتشي له الرُّوح والأنْفُس، فلا تكنْ للجهل طالبا، وفي طريقه راغبا، فتصبح للغبن جالبا، وكن للعلم صاحبا، ولأهله مصاحبا، وللحكمة ناقبا، فتصبح للبصيرة ثاقبا.
د.محمد عناد سليمان