الأبناء والإرث
شرين عرفه
يحكى انه في بلدة صغيرة تنعم بالخير والأمان وتحظى بكل ألوان الجمال والنماء ويتخللها نهر بالخير والجود يفيض ..كان يعيش في كنفها مزارع بسيط لكنه بالحكمة والحصافة بليغ..وكان له عشرة من الأولاد كانوا له خير سند ومعين وكانوا يساعدونه في زراعة ارضهم التي كانت لهم بمثابة كنز وفير ..تأتي لهم بالخير الكثير وكانوا يملكون بيتا فسيحا ينعمون به ويرتعون في جنباته ..وحظيرة ملأى بما أنعم الله به عليهم من أنعام تعجز العين عن حصرها... ومخازن ملأى بالغلال والمحاصيل التي تجود بها مزرعتهم الخصيبه ..حتى اتت على القرية يوما قبائل تعيش على سرقة خيرات غيرها وتقتات من عرق من تجبرهم على أن يعملون من أجلها ..وكبر الأولاد وهم بين غزاة يأتون ويروحون ..ينهبونهم ويسخرونهم لخدمتهم..يمنعونهم العيش في بيتهم بينما يرتعون هم فيه ..يمنعونهم زراعة ارضهم والتمتع بخيراتها ..و يجبروهم على العمل أجراء في أرضهم ..بينما هم يحصدون كل ما تجود به من خيرات ..ثم يلقون إليهم بالفتات ..من بقايا طعامهم ..ويظل الأولاد سنوات عمرهم وهم يكافحون هؤلاء الغزاه ..متحدين بإيمانهم وعزمهم وشجاعتهم التي تفوق أي شجاعه ...فقد كانوا خير جند وأشجع رجال ..وكان هؤلاء الغزاة يعملون دائما على زرع الفرقة والشحناء بينهم ...ولكن إخلاصهم في الدفاع عن بلدتهم ووطنهم كان يوحدهم دائما في مجابهة أعدائهم ....وحتى حينما أتاهم من هم من بني جلدتهم ويحملون نفس دمائهم ..أقاربهم وابناء عمومتهم الذين طمعت نفوسهم في خيرات تلك الأرض الطيبة الخصيبه..فكانوا أشد عليهم من الغزاة والأعداء ..فعلوا بهم الأفاعيل...وأذاقوهم الذل والهوان ..وأبتلعوا في بطونهم كل ما تأتي به المزرعة من خيرات ..فنهبوا ما استطاعوا أن ينهبوه ..وجرفوا ما أستطاعوا أن يجرفوه ..وقتلوا أغلب حيوانات الحظيره ...والتهموا ما بقي منها..وخربوا المخازن واستولوا على كل ما بها من غلال..فكانوا أشد وطأة وأخبث نفسا من الغزاة...وظل الحال هكذا ...والابناء في صراع مرير طويل ..مرات مع الغزاة المحتلين ..ومرات مع ابناء عمومتهم الطامعين المخربين ...سنوات وسنوات حتى تحررت البلدة أخيرا من هؤلاء الغزاة والطامعين ..وصارت ملكا لابنائها و لم يصدق الابناء حينها أنفسهم حينما رأوا أن بيتهم الفسيح عاد إليهم وكذلك مزرعتهم الطيبة ..وحظيرتهم ومخازن غلالهم...و كانت فرحتهم عارمه و دهشتهم كبيره ..أحقا كل شئ عاد ملكا لنا ..وبدأ الأولاد يفكرون كيف سندير تلك المزرعه بعد كل هذا التجريف الذى أتى على الأخضر واليابس فيها وكيف سنرجع الحظيرة كما كانت ومخازن الغلال بعد كل هذا التخريب الذي لحق بهم..وبعد مناقشات مريره ..وجدالات عقيمه..اتفق الابناء أخيرا على أن تكون إدارة المزرعه لأخيهم الأكبر فهو الأقدر والأصلح لإدارتها ..ووافق الجميع على ذلك ..وبقي لهم أن يتفقوا على من سيدير أمور الحظيره ومخازن الغلال وظل كل واحد من التسعة الباقين يدعي أنه الأحق بإدارة الحظيره وآخر يدعي أنه الافضل لمخازن الغلال والاحكم من الباقين..ولم يستطيعوا أن يتوحدوا حول رأي..أويصلوا إلى صيغة توافق تجمع بينهم جميعا وتحسم أمرهم وطلبوا المشورة من أخيهم الأكبر ...الذي أقر في البداية بأحقية إدارة الحظيرة ومخازن الغلال لإخوته وبأنه سيكتفي بكونه مديرا للمزرعه ومتحكما في امورها..وأراد أن يقسم إخوته قسمين ..قسم يدبر امور الحظيره و يعمل فيها وقسم يقوم بحراسة مخازن الغلال ورعاية شئونها وإصلاح ما فسد فيها..إلا أنه طلب منهم مهلة يفكر فيها حتى يأتيهم بالجواب الشافي .والرد الكافي....ورجع إلى بيته محتارا مهموما يفكر فيما يمكن أن يفعله من أجل حسم ذلك الخلاف بين إخوته حتى لا يصبح شجارا يطحنهم جميعا ..وظل يفكر ويفكر كيف سيقسم إخوته قسمين ..وأي قسم سيدير الحظيره ..ومن القسم الآخر الذي سيرعى مخازن الغلال حتى أعياه التفكير وكان شديد الإرتباك ..فالأمر محدث لديه ..ولم يعهده قبل ذلك فقرر أن يقترح على زوجته أن تقدم له المشوره ..والتي رأت بدورها أن في ذلك فرصة لإمتلاك كل شئ وأقنعت زوجها أن إخوته عديمي الخبره لا يفقهون شيئا وأنه إذا قام بتقسيم الأعمال بينهم ..سيؤدي ذلك إلى تناحرهم و ستنتهي الخلافات بينهم لتدمير كامل الإرث..ولن تستطيع أن تدير المزرعه إذا لم تكن أنت من تتحكم بالحظيره وتشرف على عمل الحيوانات التى سترعى في مزرعتك ..و الأحرى لك أيضا أن تدير مخازن الغلال حتى تستتب لك الأمور عندما تريد حصاد مزروعاتك فلا تلتبس عليك أمورك ولا ترتبك أعمالك ..كان كلام الزوجة يحمل بعضا من المنطق كما أنه صادف هوى في نفس الأخ الأكبر ...فسره أن يكون المتحكم في كل شئ ..فهو يعتقد أنه الأجدر على ذلك وأنه الأكثر إخلاصا والأشد حرصا على مصلحة إخوته ..وبالفعل ..ما أن أتى الصباح حتى خرج عليهم ..حازما أمره ..مقتنعا برأيه ..ومصمما على أن تؤول إليه إدارة الحظيرة و مخازن الغلال ..وبذلك تصبح له مقاليد كل شئ في إرث أبيهم ..وحاول أن يقنعهم أن تقسيم الإدارة عليهم سيؤدي حتما لنشوب خلافات قد تهلك معها كل شئ ويكون الجميع خاسرون..خاصة وأن سكان القرى المجاوره ..أو أقاربهم الطامعين الحاقدين الذين يعيشون بالقرب منهم قد يتحينون أي فرصة مواتية للإنقضاض عليهم وغزوهم مرة ثانيه..وتعهد لهم ..مستوثقا بأغلظ الأيمان أنه سيكون عادلا معهم ..يعطي كل واحد منهم حقه ..ولا يجور على حق أي منهم ..وكان مخلصا في قوله ..صادقا مع نفسه ومع إخوته...والذين ثاروا بالطبع جميعا حينما سمعوا بذلك وعلا صوتهم بالرفض القاطع ..واتهموا أخيهم بالجشع والطمع ..وأبوا أن يحققوا لأخيهم رغبته في الإستيلاء على مقاليد كل شئ ..وأحسوا في نفوسهم بالغبن والظلم الشديد ..فكيف يحرموا جميعهم من أن يديروا أي من ممتلكاتهم ..كيف تسول له نفسه ذلك..وكان رأي أصغرهم وكان أكثرهم رعونة وتهورا أنه لا حل مع أخيهم سوى الإستعانه بأحد ابناء عمومتهم عليه..رفض الفكرة بعضهم من العقلاء والمخلصين ..ووافق عليها بعضهم الآخر ممن سيطر الحقد عليهم وأعمى بصائرهم ..وبالفعل اتفق هؤلاء مع أحد ابناء عمومتهم أن يأتي ومعه مجموعة مسلحة بكامل الأسلحة والعتاد على أن تقوم بالإستيلاء على الحظيرة و المزرعه ومخازن الغلال ..فيكون ذلك نكاية في أخيهم الذي حاول الإستئثار بكل شئ ..وجاء ابناء العمومة مدججين بالسلاح ..فرحين بعودة فرصتهم في نهب وسرقة إرث الابناء ...ولأن الأخ الأكبر قد حمل نفسه مسؤلية إدارة كل شئ من زراعة الارض لحراسة المخازن لرعاية الحظيرة ..وكان بالطبع يعجز عن فعل كل ذلك وحده ...خاصة بعد أن اتفق الأصغر واثنان آخران على ألا يقدموا أي معونة لأخيهم الأكبر ....وجائت العصابه ومعهم الثلاثة إخوة الذين اجتمع حمقهم مع حقدهم ..واستولى ابناء العم على الحظيرة ومخازن الغلال ..وحاولوا الإستيلاء على المزرعه ..لولا إستبسال وشجاعة الإخوة الستة الباقين ومعهم أخيهم الأكبر ..حينما أستشعروا عظم خطر ضياع المزرعه التي كافحوا طويلا من أجلها ودفعوا من عمرهم ودمائهم في سبيل إستعادتها ..وكان النصر حليفهم ..حينما أخلصوا في الدفاع عنها واتحدوا في سبيل ذلك ..ولم ييأس ابناء العم ..بعد أن عادوا أخيرا إلى البلدة التي طردوا منها من قبل ..بل وأصبحوا يمتلكون فيها ما يعينهم على تنغيص حياة الابناء ..وتكدير عيشهم ..فلا تستقيم حياتهم داخل مزرعتهم بدون إحتياجهم لحيوانات حظيرتهم ..و مخازن غلالهم ..وبات الجميع ليلتهم حائرين ..مهمومين ..مكسورين ..لا يملكون سوى تأنيب أنفسهم ..فقد أخطأ الجميع ...حينما هزمتهم خلافاتهم ..فلم يتحدوا على ما فيه مصلحتهم..حينما ظن كبيرهم أنه لا حاجة له بإخوته ..وأغتر برأيه وحكمته وأراد الإستئثار بكل شئ بحجة أنه الأقدر والأخلص..وآخرون جنى عليهم حمقهم وغبائهم ...ولم يتحد العاقلون فيهم لمواجهة تهور الحمقى.. فيا للحسرة وقد دفع الجميع ثمن ذلك ...
وحينما أصبح الصبح ...نادى الأخ الأكبر على إخوته ..فجاء البعض وتمنع الآخرون ..وأقترح عليه أوسطهم أن يذهب بنفسه ليلم شتاتهم و يذهب الأضغان من النفوس ويزيل الأحقاد من القلوب حتى يجتمع الإخوة مرة ثانيه يدا واحدة تجابه العدو الغاشم الذي يريد الإستيلاء على كل شئ ..وبالفعل استطاع الأخ الأكبر أن يستميل قلوب إخوته مرة ثانيه ويزيل آثارحقد وكره ترسب في النفوس بعد خلافات مريره..إلا أن الأخ الأصغر قد استمر على عناده وحمقه وغبائه ..تحركه أحقاده الدفينه على أخوته ..فيسيطر حمقه على أفعاله ..
إتحد الإخوة جميعا لمجابهة عصابة ابناء العم ..واتفقوا على أن يكون قائدهم في ذلك أخيهم الأكبر ..بعد أن اعترف بخطأه ..وندم على فعله ...واحتضن إخوته مرة ثانيه ..و تشارك معهم في إدارة المزرعه واحتمى بهم و جعلهم ظهرا وسندا له في معركته مع ابناء عمومته المخربين ..ليستعيد كامل إرث أبيه ..ومع أنه ظل الأخ الأصغر بحمقه وتهوره وبصوته العالي ..يكذب على إخوته ويتهمهم بالباطل..وينفث في وجوههم أحقاده وسمومه ..وكان دوما شوكة في ظهورهم ..وعقبة في طريق كفاحهم ضد عصابة ابناء العم...إلا أن بقيتهم قد وعيت الدرس ..وقرروا ألا تكون خلافاتهم وأطماعهم سببا جديدا لضياع ما تبقى لهم من إرث أبيهم ..فقرروا التوحد خلف أخيهم الأكبر ..والقتال لآخر نفس يخرج من صدورهم ...فالعدو قريب والتركة غالية و هي كل ما يملكون...إن ضاعت ضاعوا جميعا..وإن بقت ..بقوا معها...