خمس دقائق في ضيافة "الشبيحة"!

قصص سورية رواها "اليوتيوب"! 1

خمس دقائق في ضيافة "الشبيحة"!

موفق محمد فوزي

خيوط الشمس سهامُ نورٌ تضرب وجه المتشائمين صباح ذلك اليوم ،  فتح النوافذ على مصراعيها ، وركز بصره في الأفق ، ليرى تعانق البيوت ، تتكوم لترسم صورة جسد من حجارة وطين ، يمسك كل بيت بيد من يليه في صف غير منتظم العرض ، غمرته

 صورة المنازل بالأمان الذي لا يشعره الإنسان إلا في وطنه ، عبّئ رئتيه من نسيم "الصبح إذا تنفس" ، ثم فرّغ ، وأعاد الكرة اكثر من مرة  ، تحوّل إلى المرآة ،ليتأمل في وجهه نظرةَ من غاب عنه أياماً وأياماً ، تلمس وجنتيه براحة يديه ، ثم استعان بإبهامه من جهة والسبابة والوسطى من جهة أخرى ، وشد وجنته مشكلاً وجهاً تعبييراً مضحكاً ، ابتسم أمام المرآة ، التي غرز فيها بصره ، ثم حملق بعينيه يحاول أن يكتشف سر بريقها ، تقدم من المرآة أكثر فأكثر ، ثم حضنها مستمراً في طعنها بعينه ، يخيل لمن لا يعرفه أن هذا الرجل يحاول أن يفهم سر نظرية ابن الهيثم في "الرؤية" من حدة نظراته .

تسلل من غرفته ليروي وجهه بالماء ، فتح صنبور الماء الذي أمطر يديه بقطرات الرذاذ ، لكمه على "طربوشه" ، فسال الماء بغزارة ، ثم انطلق ليغير ثيابه ... 

- أحمد ، أحمد 

- نعم ، يا أمي 

- الفطور جاهز يا ابني 

أحمد ، شاب في أواسط العشرينيات ، حاصل على شهادة "البكارلوريس" في آداب اللغة العربية من جامعة "دمشق" ، كغيره من أبناء جيله ، لم يتوظف ، لأن الوظيفة في بلده حكرٌ على من يملك "واسطة" أو "حظاً يفلق الصخر" ، هو بكر والده و يشتغل معه في محل لبيع الخضروات والفواكه في حيّ الخالدية بحمص . أما إذا شئت أن تفصل في وصفه: فهو متوسط الطول ، حسن الهئية ، حلو الوجه ، كامل أوصاف الرجولة ، رحيم بأبناء حيّه ، متواضع ، بارّ بوالديه ، ملتزم بدينه ، ويحافظ على أداء الصلوات في مواقيتها .

طرح السلام على والديه ، وقبّل يديهما ، وتموضع في مكانه على مائدة الطعام ، فإذ بوالدته ، تقول :

- لدينا نقص بالمواد التموينية ، ولولا وجود "الزيتون" وبعض "المونة" لكانت "سفرتنا" شبه فارغة 

فرد عليها أبو أحمد 

- الحمد لله ، الوضع يزداد سوءاً ، حتى نحن نواجه صعوبات في تأمين الخضروات والبضائع للناس بسبب حصار مليشيا "الاسد" ، ولولا أننا نريد أن نخدم أبناء حيّنا لكنا في عداد الجياع الآن .

- إذن يا أبو أحمد ، حتى متى ؟!

فأجاب أحمد

- طبعاً ، لما "الأرنب" يتنحى هو "وكلابه" عن السلطة ، مكفينا عقود من الظلم ، بلدنا ليست "تكية" ولا دولة لآل الأسد ، "الله يلعن أرواحهم" !.

- يا ابني ، إذن يعني هذا القتل وهذا الدم ...

فقال أحمد مقاطعاً :

- الدم هو ضريبة النصر ، الدم هو الذي يروي شجرة الحرية ! . 

قطع الوالد الحديث ، وطلب من الجميع إنهاء فطوره ، ثم خاطب ابنه

- ستذهب اليوم إلى عمك "أبو محمود" ، لتأتي لنا ببعض الخضروات حتى نوزعها على البيوت ، احذر... ، اذهب وعد بسرعة!. 

- حاضر ، حاضر .

ثم أعطى "أبو أحمد" ابنه مبلغاً  من المال ، فتوجه إلى الباب ، ليرى أمه تنتظره ، تتأمل في وجهه

- "وجهك وجه عريس ، دير بالك ع حالك"!. 

ثم طبعت على وجهه قبلة أم ولهانة على ابنها ، خرج من البيت ، فأسرعت نحو النافذة ، تراقب خطواته ، حتى غاب وحجزت عن رؤيته جدران وأسوار .

مشى في الشارع ، يعلم أنه في مهمة محددة ، سينجزها بالسرعة القصوى ، حتى يعود إلى حيّه ليشارك الثوار بالمظاهرة "اليومية" ، رأى "جمال" من بعيد ، الذي توجه إليه بالتحية ، ثم قال له :

- البارحة استشهد خالد الحمصي ، قتله مجموعة من "الشبيحة" بعد أن مثلوا بجثته ، سنشيعه اليوم بعد صلاة الظهر 

- سأكون متواجداً ، وماذا هناك من أخبار ؟

- يقولون أن الشبيحة منتشرون في بعض "الحارات" ، ويعتلون بعض المباني في أطراف المدينة ، وأنهم يستطلعون المناطق الرئيسة في المظاهرات ، حتى يقوم الجيش المحاصر للمدينة بقصفها!

فقال أحمد مقاطعاً :

- قصفها ، ماذا تقول ؟ 

- نعم ، قصفها ، ألم يخبرك أبوك ماذا جرى في حماة عام 1982م ؟ ، على كلٍ فقد تم فتح باب التطوع ، واليوم سنبحث هذه المسألة في الاجتماع بعد العشاء ، احرص على أن تكون متواجداً

- سأكون بإذن الله .

"ننتصر أو نموت ، معادلة المعركة" ! ، قال في نفسه ، ثم فتح صفحات ذاكرته ليفتش بينها عن صورة خالد الحمصي ، الشهيد الجديد ، وفجأة رآه :

- إنه خالد ، رحمك الله يا خالد ، قتل الله من قتلك !

خالد الحمصي ، زميل الدراسة الإعدادية مع أحمد ، عُرف عنه بأنه صامت ، لا يحب الكلام ، وبرغم ذلك فإن كثيراً من أبناء سنه ، يحترمونه ويقدرونه ، فهو المتفوق ، الذي يعمل في بيع "السكاكر" بعد دوامه . قُطع حبل أفكار أحمد عندما توقفت أمامه سيارة أجرة تعود لجارهم أبو أسامه :

- اركب يا استاذ احمد ، مؤكداً انت ذاهب لشراء بضاعة للمحل 

ولج السيارة ، مبتسماً :

- السلام عليكم ، صحيح عمي ابو اسامة ، على أبو محمود ، إن شاء الله 

- بسيطة ، ثلث ساعة ونكون عنده إن شاء الله.

صمت الرجلان ، وشردت أفكارهما ، أبو أسامة استأجر حيزاً في اللافراغ يسرح به ، ولولا منحنيات الطريق التي توغزه مرة بعد مرة لوصل الى الهاوية ! ، أما أحمد فاستعرض مشاهد رقمية في ذاكرتة تجري بسرعة طلقات رصاص "الشبيحة" ، أطفال يبكون آباؤهم ، وأطفال يبكون أنفسهم ، وشعب بكامله مجروح مقهور يأنّ بأصوات خرقت أبواب السماء واهتز لها عرش الملكوت ، لكن البشر صمّوا آذنهم عنها !"قال أحمد في نفسه".

استمرت سيارة "أبو أسامه" تحرث الأرض حتى اصطدمت ، بحاجز "طيّار" للشبيحة ، طلب أبو أسامه من أحمد الحفاظ على الهدوء ، والتصرف بشكل طبيعي :

- "من وين جايين" ؟

- من الخالدية ، أجاب أحمد 

نظر أبو أسامه بعيني أحمد ، كمن أطلق ضوء الإنذار الأحمر القاني ، فاستدرك أحمد وبسرعة الإشارة الضوئية :

- كنا ... "وتلعثم"

فطلب الشبيحة من أحمد النزول من السيارة ، وطلبوا من أبي أسامة الانصراف ، الذي لم يستجيبوا لتوسلاته وطلباته بإطلاق سراح أحمد أو انتظاره :

- روح من هون ولد يا "..." ، بلاش العن "...."! 

- مش رح يطوّل ، خمس دقايق بس يا ابن "...."!

قام أحمد بتشخيص الموقف ، أربعة من الشبيحة ، يقتادونه لحانوت فارغ قريب من نقطة "التمركز" ، أكثر ما استغرب من أحمد ، هو لون الحانوت الحالك ، ووجود حبال وأسلحة ، و"أرجيلة"! ، لم يربطوه ! ، ولم يجلسوه على الارض ، بل تركوه واقفاً .

- ماذا سيفعلون بي ؟!

فعاجله الشبيح الأول ، بلطمة على خده ، شعر بدوار على إثرها وسقط أرضاً ، ثم جاء الشبيح الثاني وضربه بحذائه العسكري على منطقة "الذكورة" ، فتأوه احمد من حر حرقة الجسد واحتباس النفس ، ثم تجمع القوم بالركل والضرب في مباراة ماراثونية ، فجاء أحدهم وسكب البنزين على وجه أحمد وجسده ، وقال له

- من ربك ؟

فصاح احمد :

- ربي الله ، الله !!

- ولك حقير ، ربك بشار 

فعاد أحمد :

- ربي الله ،، الله سوريا حرية وبس !

فأشعل أكثرهم حقداً النار في أحمد ، وهرب الشبيحة الأربعة من المحل ، وهم على يقين أن الرجل سيغدو "فحماً" بشرياً بعد دقائق قليلة . الألم يلسع جسده الضعيف أمام غول النار ، احترق ، اختنق ، شعر بوجهه يصرخ من قهر العذاب :

- أوَ يكون مصيري كأصحاب الأخدود ، يا نار كوني برداً وسلاماً على سوريا ! .

استسلم للموت ، واستعد لمقابلة ملك الموت ، لماذا تأخر ؟! ،،

- يا الله ، آآآه ، الله .

وفي هذه الأثناء ، إذ بالسائق أبو أسامة يهجم على كتلة اللهب برذاذ مطفأة الحريق الموجودة في سياراته ، ويهرع الأهالي بدلاء الماء لإطفاء "الرجل المشعَل"! . لحسن حظ أحمد أن "ابا اسامة" كان قريباً منه رغم طلب الشبيحة منه المغادرة ، رأى بأم عينيه ماذا جرى ، وكان مستعداً للتدخل للحفاظ على حياة هذا الشاب ، لكنه لم يكن ليتوقع أن "الشبيحة" سيحرقون الرجل بكل ما للكلمة من معنى !  . حمل أبو أسامة أحمد كمن يحمل جزءاً من نفسه ، لم يخفِ نظرة "الغضب" ، وقفل عائداً بأحمد إلى "الخالدية" ، لفرغ حمولته من "اللحم الآدمي المشوي" في "المستوصف الميداني" الذي اضطر الثوار إلى إنشائه بسبب انتشار "الشبيحة" في المستشفيات ! ، وقتلهم لمصابي الثورة أمام الأطباء وأحياناً بمعاونتهم !.

الدكتور أمجد ، لم يصدق الحالة الطبية الماثلة أمامه :

- مجرمين ، ليسوا آدميين !!! ، يا لطيف ، يا الله !

في هذه الأثناء انتشر الخبر في الخالدية ، الشبيحة أحرقوا أحمد . ركضت أمه بلا وعي إلى المستوصف ، كل من رآها ظن بها الجنون ، نسيت أن تضع على رأسها غطاء الرأس ، تتمتم بآهات من عالم الحزن السرمد ، دخلت الى المستوصف ، ولحق بها زوجها ، وصاحت :
-
ماذا فعلوا بك يا نور عيني ؟!

طلب منها الدكتور بأدب الابتعاد قليلاً ، حتى يتسنى له القيام بعمله ، أو بصراحة أكثر حتى لا تعاين الجروح ولا تشم لحم ابنها "المشوي"! ، رجعت للخلف قليلاً ، بكت ، انتبهت أنها نسيت أن تضع "المنديل" ، فأسرعت لوضع غطاء أحد الأسرّة على رأسها ، ثم اتكأت على الحائط ترقب بعينين دامعتين ابنها البكر ، دخل زوجها أبو أحمد إلى المستوصف ، لاحظ الجميع صفار وجهه ، وقال لاهثاً :

- كيف حالته يا دكتور ؟؟!

فأجاب الدكتور أمجد على الفور :

- لا تخافوا ، صحيح الحرق مش بسيط ، ولكن الوضع تمام . هو الآن نائم بسبب المسكنات التي أعطيتها له ، اتركوه يرتاح .

أذّن الظهر ، وخرجت جنازة "خالد الحمصي" يشيعها حواريو الثورة ، لم يكن أحمد غائباً ولا حاضراً ، ثم تمايلت الشمس عصراً ، فودعت يوماً من أيام الثورة ، كان أهل أحمد بجواره في المستوصف ، استيقظ أحمد العشاء ، تلمس وجنتيه ، شعر بأثر الندوب ، والحرق :

- الحمد لله ، الذي أحياني بعد مماتي !

صاحت أمه ، حضنته بشكل "شفاف" لكيلا توجعه ! :

- الحمد لله على سلامتك يا ابني !

نظر إليها ، وإلى والده :

- سأتطوع في "الجيش الحر" ! .

ابتسم والده ابتسامة رضا ، وكذا والدته التي أضافت :

- حياة مع ناس بتحرق ليست بحياة ، إما أن نعيش أحرار بكرامة ، وإما نموت ونحن نناضل من أجل كرامتنا! .