الرفيق أحمدوشكا
ثناء أبو صالح
تكوم على سريره في زاوية الغرفة, يراقب بمشاعر متباينة زملاءه, رفاق السلاح والعقيدة, وقد تجمعوا حول كؤوس الخمر وورق اللعب .. يتصايحون ويقهقهون ويصخبون ..وتعالى التساؤل في نفسه: إلى متى ؟؟ إلى متى ؟؟
استدار إليه كريموف وصاح ملوحاً بزجاجة الخمر : هييه أحمدوشكا,, تعال شاركنا اللعب
نظر إليه بعينين زجاجيتين خاويتين ولم يجب, وتعالت الصيحات من المخمورين تناديه وتلح في دعوته, وقام كريموف بتثاقل يتطوح ..فأوقع كرسيه أرضاً, واتجه إليه, ووضع يده الثقيلة على كتفه يحاول جذبه ..
همس أحمدوشكا : لا .. لا أريد
هتف المخمور وهو يدني وجهه منه : لا ماذا ؟؟ لا تريد ؟؟ لماذا ؟!
زكمت أنفه رائحة الخمر فأدار وجهه مشمئزاً ودفع زميله برفق عنه, ألح كريموف متلعثماً : لا .. لن أرجع حتى أعرف ما بك, فأنت .. أنت صديقي, هيا حدثني .. هيا
وانحط بكل ثقله قربه متكئاً على الجدار, وهو يتابع : هيييييييا .. لا تكن سمجاً .. حدثني .. هييا
ولما لم يسمع أي جواب , اقترب من أحمدوشكا متكئا ًعلى مرفقه محملقاً بعينين حمراوين في وجهه, هامساً : لا تريد أن تخبرني ؟؟ أنا أعرف .. أليست هي السبب.. نلك الفتاة ؟
أشاح بوجهه بعيداً عنه, فامتدت أصابع المخمور إلى ذقنه تدير الوجه, وقال بصوت أكثر حدة : إنها هي أقسم .. أليس كذلك ؟؟
وتتابعت الصور خاطفة أمام أحمدوشكا, وأحس - ربما لأول مرة – بالحزن يغمر قلبه, وهتف بأسى: نعم .. إنها هي
صمت المخمور لحظات, بدا خلالها كأنه صحا من نوم ثقيل, ثم انطلق يضحك ويضحك.. ضحكاً هستيرياً متواصلاً, وأحمدوشكا يرمقه والأسى يزداد وضوحاً على قسمات وجهه, وهتف كريموف أخيراً وهو يغالب ضحكه : أتدري .. هه هه إنك .. أبله, أنت أبله, خمس سنوات وأنت تعيش حيواناً .. هه .. اعذرني يا صديقي. فما الذي حدث اليوم ؟
اسمع .. هيا وخذ كأساً معي, وسترى أن كل كوابيس العالم ستزول هيا
وقام من جديد يحاول جذبه, دفعه أحمدوشكا عنه دون أن ينظر إليه, فتركه يائساً وعاد إلى الرفاق يغرق نفسه من جديد في الخمر واللعب.
أما هو .. أحمدوشكا, فاستلقى محاولاً النوم دون جدوى, أحسّ صيحات السكارى وصراخهم أعلى من كل يوم, وضع الوسادة فوق رأسه مصمّاً أذنيه عنهم, لينبعث صوتها من أعمق أعماقه مولولاً مستغيثاً وهم يجرونها إلى السيارة العسكرية .. وتتابعت الصور أمامه, عشرات الصور مرت في خاطره, وهو يتقلب يمنة ويسرة كأنما يتقلب على الجمر, يحاول إزاحتها فتختفي, لتعود صورة "ملاري" بمفردها وتحتل المساحة كلها .. "ملاري" لمَ ملاري بالذات؟ لعل فيها شبهاً بأمه .. بأخته ؟
ويزداد ضغطه على الوسادة فوق رأسه, فيخفت ضجيج الرفاق لتغدو الأصوات في ذهنه أكثر ارتفاعاً والصور أشد وضوحاً, عشرات الصور تمر في مخيلته : غلام أحمد, بي بي, عبد الحي, نسيمة, شوكت يار .. كلهم أفغان, مسلمون مثله, وجميعهم عُذبوا واغتصبوا وحُرّقوا ومُثل بهم بيديه وأيدي الزملاء رفاق الكفاح والعقيدة.. ولمَ ؟!! ومن أجل من ؟!!
ما زال يذكر أول مرة امتدت يده إلى أحدهم, كم كان الأمر عليه صعباً شاقاً, وكم عانى من آلام خفية بعدها, كريموف وحده شعر به, واستطاع أن ينقذه من آلامه - أو هكذا خُيّل إليه - إذ علمه كيف ينجو من عذابه الخفي بكأس من الخمر, أعقبتها كؤوس وكؤوس
لكن صورة "ملاري" اليوم, وهي تحتضن القرآن الكريم, تجعله حاجزاً بينها وبينه, وقد تهدل شعرها الأسود الغزير يستر صدرها العاري, وصوتها يستغيث به : اسمك أحمد ..إذاً أنت مسلم مثلي, بحق الإله الذي نعبده معاً ساعدني على الهرب, أو اقتلني قبل أن تمتد يدٌ إليَّ .. أرجوك
وتذكر جبنه وخوفه وتخاذله عن نصرتها حينها, فارتفعت قبضته تقرع صدره في ضربات لا تكلّ, وعلا نحيبه يدوي في أرجاء الغرفة عالياً
وانتبه لنفسه, فهو ما زال بين الرفاق, ونهض مسرعاً يستطلع أحوالهم مستغرباً الصمت الثقيل, ليجدهم يغطون في النوم كالجثث الهامدة, وقد تنثرت حولهم أوراق اللعب وزجاجات الخمر الفارغة.
واستقر عزمه على الخلاص, فهب واقفاً يجمع ما يستطيع من السلاح, وتسلل خارج المعسكر بحذر شديد, وقد ارتفع وجيب قلبه في دعاء صامت وتوبة صادقة, وانطلق يتلمس طريقه عبر الظلام وضباب الدموع إلى الجبال .. حيث المجاهدين .
كتبتُها عام 1990م حين الغزو السوفييتي لأفغانستان, واليوم أراها تنطبق على حالنا في ثورتنا ضد الطاغية ودعم الروس له .. لذا أنشرها تحية لكل منشق ملتحق بالجيش الحر .