العودة
نوارس علي اليزيدي
حضرموت ـ المكلا
كنظرة الاستغراب التي رأيتها في عيني أمي عندما سألتها لأول مرة عنك!.. ، كابتسامات جدي الباردة التي تثير حيرتي في كل مرة يسأل فيها عنك رجال قريتنا!..كبكاء جدتي ودموعها الحارقة عند ذكرك التي رسم بخديها مجرى نهرين لا ينضبان!..ككل شي يثير الريبة في بيتنا الصغير . كنت أنت .. أنت أبي الذي لا أعرفه!!..
لم أدرك أن من أحضر في نعشاً قديم ومغطى بسجادة عتيقة بعد خمسة عشر عاماً من الغياب هو أنت ..أنت أبي !!
كنت أتخيل أنك ستعود محملا لا محمولاً فرحاً سعيدا ًبرؤيتنا ورؤيتي أنا ، وقد صرت شاباً لي من السنين مايشبه غيابك!_ لا جثة هامدة_تسترجي دعاء من حولها!!
عيناك غائرتان ولونك أصفر باهت . ووجهك ذو شحوباً غريب، شفتاك ممطوطتان ، وكأنهما تبتسمان لي برغم لونهما البنفسجي القاتم، لا أدري لم تخيلتك قوي البنيان شديد السمرة حاد العينان؟؟!!
فلم تروى لي قصصاً عنك ولا نملك لك صورة.. فقط خيالي الواسع وبعض الأقاويل التي تصل إلى أذني بين فينة وأخرى رغم محاولاتي تجاهلها.. فهم يقولون أنك هجرتنا كي تلتحق بتنظيم سري يسعى للخراب والدمار باسم الإسلام.. منظمة غريبة يهابها الجميع! البعض يلقبني بابن القاتل ، والبعض يسميك الإرهابي!،رسالة وصلتنا مع جثمانك مكتوب فيها"أنك شهيد"!!، ترى ما نوع شهادتك؟! . وهل ذاك الجرح العميق في عنقك هو السبب؟! أحيانا أبكي في سري ، فقد كنت أتمنى وجودك حولي ، ففي كل مرة أذهب لصلاة مع جدي أردد في أعماقي : متى يعود أبي وأذهب معه؟، وعندما يخبرني أحداً من رفاقي أن أباه أبتاع له شيئاً أبلع غصتي وأنا ادعوا الله ان لا يطيل غيابك عنا .
ياآآآه كم كنت ستفخر بتفوقي وحفظي لكتاب الله كاملاً ..تباً لهذه الحياة التي سرقتك منا،مسكينة أمي فهي تؤثر العزلة حتى لا تسأل عنك من فضوليات قريتنا، كم عانت تلك المرأة كثيراً.. أصبحت حتى لا أفهمها متى تضحك؟ومتى تبكي؟ومتى تتألم؟متى يكون ذلك عنك؟ ومتى يصبح لسواك؟..لقد تركت الكثير ورائك يأبي وتحملته هي بصمت! . أراها تشغل نفسها بكل شي وأحياناً بلا شي فقط لتتناساك ، أو ربما لتتذكرك . أكثر!!،يؤلمني خوفها المبالغ علي فهو يدل على صدق تلك الأحاديث التي يتهامس بها الجميع وأنا اكره مجرد التفكير في ذلك فلك بداخلي صورة جميلة لن يستطيع أحدا محوها أبداً وحتى بعد أن رأيتك ستظل كما هي،..ها قد بدءوا في التوافد لمشاركتنا العزاء أو ربما جرهم الفضول ليروك فلأول مرة سيتوقفون عن نسج الشائعات عنا..ستخرس ألسنتهم بعد ان يتم دفنك ،ولأول مرة أمي وجدتي تبكيان أمام الجميع جهراً ولأول مرة أيضاً أرى جدي وقد فاق من تخفيه المريب..أبي لم أكن أتوقع أن نظرتي الأولى لك ستكون هي النظرة الأخيرة! ، ولا أدري لم أخبرك بكل هذه الأشياء وأنا على يقين انك مجرد جثة، جثة لن ترد على كلماتي ولن تسمعني حتى !؟..ورغم هذا أشعر بالارتياح أقله إنني أراك أمامي الآن حقيقاً وليس حلماً من سج خيالي، وبرغم كل ما مر بنا هاأنت تعود يا أبي.