جثمان الزيتونة العتيقة
جثمان الزيتونة العتيقة
أحمد يوسف ياسين
عانين ـــ جنين
قبل عشر سنوات ، وربما أكثر من ذلك بكثير، انت لم تعد تذكر فقد أخذتك هموم الحياة اليومية بعيدا عن تلك الزيتونة التي حفرت على جذعها حرفين من اسمي حبيبين أحدهما أنت والآخرلم تعد مهتما بأخباره وأين وكيف يعيش الآن ، كل ما تذكره هو وجه أبيك القاسي والحاد أكثر من ( البلطة ) المسنونة التي كانت اداة زراعية اولى يعتمد عليها في تقليم شجر الزيتون ، ظنا منه ان الحفر ييبس الشجرة فقد لاحقك بخفة ورشاقة وكاد يلقي القبض عليك عندما رآك تحفر الحرفين على جذع الزيتونة وتلوي غصنين غضين نابتين من الجذع على بعضهما كعلامة أبدية للمكان الذي التقيت فيه فاطمة أول مرة واعترفت لها بحبك ، وبحت لها ما في قلبك وتواعدتما على الحب والاخلاص الى الأبد، وهذا ما يفسر وجود حرف (ف )وقد صوب اليه سهم يخترق قلبا داميا ....
انت الآن بالكاد تتذكر ملامحها التي أمست كسحب بيضاء صغيرة تبددّها الرياح كيفما اتفق في أفق بعيد ، ولا شيء يستحوذ على اهتمامك سوى فرصة عمل ، مؤقتة أو دائمة ، بأجر جيد أو زهيد، فقد احتلت نظرات الزوجة البائسة والأطفال الجائعون كل مساحة متاحة في مخيلتك حتى انك لم تدر أنّ أرضكم المزروعة بالزيتون قد صادرها اليهود وأنهم يعملون جدارا يفصل بين قريتكم وبين تلك الأراضي ، واقتلعوا شجر الزيتون وربما اقتلعوا تلك الزيتونة بالذات والتي رغم السنين لو أمعنت النظر فيها لوجدت حرفين على جذعها يكادان يختفيان مع مرور الوقت وبفعل نمو الشجرة ، ولوجدت فرعين يلتفان على بعضهما بالتواء واضح ، ولو راقبت سيارات الشحن الكبيرة لألقيت نظرة الوداع على جثمان الشجرة تلك في طريقها الى مثواها الاخير في حديقة ( فيللا ) في تل أبيب ...
انت لم تصدق ان فرصة عمل جيدة في مدينة تل أبيب قد شقت طريقها اليك ،فأدخلت الفرح والسرور الى قلبك ، والى قلب زوجك التي تحلم بثوب جديد تمنته قبل اعوام وكلما ادخرت مبلغا من المال كانت هناك حاجة أمس وألح من شراء ثوب ، حاجة لأطفال يطلبون كثيرا ولكنهم أبدا لا يحصلون الا على القليل ...
وفي حديقة ( فيللا ) في تل أبيب كنت تطمر شجر الزيتون بالتراب ، وترويه بالماء ، مهمتك ان تسقيه الماء وتهتم به مقابل اجرك ، وتعمل على ( هندسة) الحفر لشجر الزيتون القادم في مواكب جنائزية في شاحنات كبيرة ...
ما الذي تنظر اليه في هذه الزيتونة بالذات ؟؟ ولماذا تهيل التراب على جذعها برفق وحنان وتسقيها ماء كثيرا ؟؟ لماذا تحسس يداك فرعيها الملتويين على بعضهما ؟؟
وتمسح دمعة تتهادى على وجنتك بحزن وتستشعر طعم مرارتها في أسفل حلقك ، أتراها ــ هذه الزيتونة ــ قد ذكّرتك بشيء ما ؟؟؟ .....
انتهت