تريتور ثقافي، لوْ سمَحت
!
محمد الهجابي
قعدَ قدّامي، وركنَ حقيبتَه عندَ تمامِ تماس ركبتيْه، ثمّ مدّ لي البطاقةَ. وقبلَ أنْ ألقيَ أنا نظرةً على البطاقة البلاستيك المقوّى والناصعِ في يدي، قالَ إنّه مثقفٌ. بعد حينٍ، أومأَ بإصبعه إلى البطاقة، وأردفَ موضّحاً: كاتب، وعضو اتحاد الكتاب.
هندامُه الرّسمي والمكوي، وحنكاهُ العامرانِ والحليقانِ، وشاربُه الكثُّ، وعثنونُه الهَدِبُ، ونظاراتُه الطبّيتانِ، ثمّ بيريه المداديةُ، وكرشُه التي دحلت قليلاً.. عناصرٌ تشي بأنّ الرجلَ لا يفتجرُ. إنّه مثقفٌ، ما في ذلك منْ شكٍّ. وطبعاً، كان لا بدّ لي أنْ أبتسمَ، وأرحّبَ به في مكتبي بوصفِه زائراً اسثنائياً، فابتسمتُ للرّجلِ ورحّبتُ به مثلما تقتضي الأصولُ المرعيّةُ. والرّجلُ أبدى ارتياحاً للحاصلِ.
منْ موضعي خلفَ المكتبِ، رأيتُ المثقّفَ يفكّ أزرارَ بذلتِه بدربةٍ متناهيةٍ، ويعدّلُ منْ قعدتِه، ويركّبُ ساقاً على ساقٍ. وما برحَ أنْ أدلى بالحقيبة الجلدِ البنّي إلى الأسفلِ، مدغماً عروتَها الواسعة في الذراع الشمالِ للكرسي. أنا بدوري، رتّبتُ لي قعدةً تليقُ باقتبال مثقّفٍ في مكتبي، فاستقمتُ ووضعتُ اليديْنِ مشبوكتيْنِ فوقَ السطيحةِ الخشبِ، ثمّ تعقّفتُ قليلاً إلى الأمامِ، برسم الرّغبة الكبيرةِ في الإنصاتِ. وسرعانَ ما فطنتُ إلى أنّه ليس منَ اللّياقةِ في شيءٍ أنْ أجلسَ في كرسيٍّ وثيرٍ ودوّارٍ، فيما المثقفُ يقتعدُ كرسياً عادياً ثابتاً منْ خشبٍ مغلّفٍ بجلدٍ أسود رخيصٍ، فقمتُ على الفور أجلبُ لي كرسياً منْ طراز كرسيّه؛ الكرسيّ الذي جعلتُه وزانَه تماماً. وهكذا، أحسبُ أنّني تداركتُ خطئاً إدارياً وديبلوماسياً فادحاً، فصارت قعدتُنا، هذه المرّةِ، تعتمدُ نظرَ المواجَهةِ، وفي تساوٍ أفقيٍّ وديموقراطيٍّ ناجزٍ، عوضَ تلك القعدةُ النشازُ السابقةُ التي غلّبت، للأسفِ، طابعَ العموديةِ والتراتبِ السمجِ.
ولشدّما لُمْتُ نفْسي إذ تفكرّتُ أنّني لم أطلبْ، في بداية هذه القعدة، قهوةً للرّجلِ منْ مقهى ميتربول، أسفلَ العمارة في الجوار، ويا لخطئي البشعِ! قهوة تكونُ سادةً بطعم لافازا، منْ صنعِ يدِ قهوايجي المقهى، وليس منْ تدبيرِ يد شاوش المكتبِ. وحقاً، فأمري للشاوش بتنفيذ الطلبية أتى متأخراً شيئاً ما، لكنّه أمرٌ تداركَ، في كلّ الأحوال، حرجَ الموقفِ. وكنتُ سأكزّ على أسناني حتّى تدمى لحمةُ شفتي السفلى، لمّا تفكّرت كذلكَ أنّني لمْ أستمزجْ رأيَ المثقّف في الطلبيةِ، لولا أنّني قدّرتُ أنّ القهوةَ هي الشرابُ المفضّلُ لدى المثقّفين. أغلب المثقفينَ، الذين ناصبتُهم القعدةَ بمكتبي هذا، يحتسون القهوةَ؛ هو الشّرابُ الثقافيُّ الأثيرُ، في ما أحسبُ. وأنا أقرّرُ، بدون تلكؤٍ هذه المرّةِ، بأنّ القهوةَ هي الشرابُ داخلَ الإدارة، بينما يكونُ الشرابُ خارجَها تلاوينَ. القهوةُ تلهبُ الدّماغ، وتوقظُ ملكةَ الإبداع، وتطردُ رائحة الكسلِ. والحال، أنّ الحاجةَ مسيسةٌ، ولا بدّ، في مثلِ هذه الجلسات المائزة، إلى مشروبٍ ثقافيٍّ.
وحالما أخذْتُ لي نفَساً بعد هذه الحركةِ الطارئةِ، عدتُ أنظرُ إلى البطاقةِ بعيْنٍ فاحصةٍ ومهتمّةٍ. وقرأتُ في سرّي: «السي محمد، أديب قاص وشاعر، وعضو اتحاد الكتاب، ومنشط ثقافي». أعدتُ القراءةَ لأكثر منْ مرّةٍ. ولمّا قدّرتُ أنّني فقهتُ المرقونَ في البطاقة، التي هيَ بلون البنفسجِ، نقلتُ بصري إلى أرقام الهواتف الثلاثة، الميدتيل والاتصالات والإينوي. وأمعنتُ النظرَ، بالمقابلِ، في الإيميلات الثلاثة، الياهو والهوتمايل والغمايل. ومنْ جديدٍ، حملتُ عينيّ إلى وجهِ المثقّفِ، وابتسمتُ، مكرّراً ترحيبي بشخصه الفذِّ. وإذ هممتُ بإرجاع البطاقة إليه، ألمعَ بيده بما يفيدُ أنّه بإمكاني الاحتفاظ بها، فدسستُها في جَزدانٍ موقوفٍ على بطاقات شخصياتِ المدينةِ اللاّمعةِ. آنئذٍ فقط، سألتُ الرّجلَ حاجتَهُ أقضيها له بكلّ سعادةٍ غامرةٍ، وبالسّرعة المطلوبةِ، فابتسمَ وشكرَ. وابتسمتُ بدوري، وقلتُ له إنّ الإدارةَ إدارتُه، وإنّه لا شكرَ على واجبٍ. ولمْ أشأْ أنْ أسترقّ النظرَ إلى ساعة معصمي، مخافةَ أنْ يؤوّلَ فعلي على غير منطوقه الحرفي. ومع ذلك، خمّنتُ أنّه لربّما قاربتِ الساعةُ منتصفَ النّهار، ولقد آنَ الآوانُ لكيْ يفصحَ الرجلُ عنِ الغاية منْ هذه الزّيارة المكرّسة.
في وقتٍ ما، دخلتِ السكرتيرةُ تذكّرُني بموعدٍ لي بالولايةِ الإقليميةِ، بينما هي تشيرُ بالإصبعِ إلى ساعتِها الرولكس. هززتُ رأسي، وقلتُ لها أنْ تُعْلِمَ السائقَ بوجوبِ تحضير سيارة الإدارةِ، وأنْ لا يبارحَ محلّه إلاّ بإذنٍ. وقبلَ أنْ تنسحبَ هيَ، فيما عيْنا المثقّف تفترشانِ إثرَ عجيزَتها الزّنبورية والفاختةِ، أصدرتُ أوامري إليها بعدم الإزعاج. ولاحظتُ كيفَ أدارَ الرّجلُ العنقَ، وهو يستدبرُ بالعيْنِ مشيةَ السكرتيرة في اتجاهِ البابِ، ثمّ وهو يوجّه بصرَه إليّ منْ جديدٍ. أراهنُ أنّه، للحظةٍ، رغبَ في المرأةِ، وتناسى موضوعَ الزيّارةِ. لثوانٍ معدوداتٍ، قد يكونُ بالُه انشغلَ بمؤخّرة المرأة. وتغافلَ بالكاملِ وجودي في قبالتِه. تلعثمُه يكشفُ. ويفضحُه تردّدُه في العودةِ إلى الإمساكِ بالخيطِ النّاظمِ للحديثِ. وهذه البسمةُ الماحلةُ التي تلبّست شفتيْه الرقيقتيْنِ، كما طفل ضُبطَ يقترفُ ممْنوعاً، كيفَ يخفيها؟
وأخالُ أنّ الرجلَ كأنّما لا ينْوي إنهاءَ المقابلةِ. إشارةُ السكرتيرة لي لمْ تنفعْ في حمل الرّجلِ على إيجازِ كلامه. وكان لا بدّ لي منْ أنْ أتصرّفَ وفقَ ما تمليه عليّ مسؤوليتي، لا كما تمليها أهواءُ الرّجلِ، فانبريتُ استعلمُه غرضَه بالتّحديدِ. وبدلَ أنْ يفي بالمطلوبِ، فيشرح لي سرّهُ، ويكشف مضمرَه، مسحَ على كرشه الناتئة أمامه، وطفقَ يستعرضُ حيّزاتٍ منْ نهج سيرتِه. قال إنّ في منجزه مجاميعَ في القصة القصيرة والقُصيْصة، وأضموماتٍ في الشعر، حظيت جميعُها بالترحيب منْ طرفِ جمهرةِ القرّاءِ في الداخل والخارج، وأفردَ لها النّقادُ مقالاتٍ ودراساتٍ قيّمةٍ. ثمّ قالَ إنّه أشرفَ على إنجاح مؤتمراتٍ ومهرجاناتٍ وندواتٍ ثقافيّةٍ، وضعت اسمَه، في صفِّ أسماء المشاهيرِ. وراحَ يعدّدُ لي أصنافَ الملتقياتِ التي نظّمَ على سعة خارطة البلادِ، ولا سيما في المدنِ المتوسطةِ والكبيرةِ. ولمْ يبطئ المثقّفُ فحملَ حقيبةَ الجلدِ بيْنَ يديْه، وفتحَها، ثمّ استلّ أوراقاً مطويّةً على اثنيْنِ، وأخذَ يفرزُها بأنامله الرقيقةِ والرّفيعةِ. يبلّلُ الإبهام باللّسانِ، منْ وقتٍ لآخر، ويمضي في فرز الأوراق، مثلما لو يفرزْ رِزْمةَ أوراقٍ ماليةٍ. يفرزُ الأوراقَ ويطرحُها على سطح المكتبِ الواحدة فوق الأخرى. ومنْ هذه الأوراق رأيتُ بعضها موشى بتزاويقَ، وبعضها الآخر بحوافّ مذهبّةٍ. انتقى المثقّفُ ورقةً بعيْنها، وبسطها، ثمّ ناولني إيّاها، وقد استقامت بعضُ خطوطِ محيّاه الأبيض الملطّشِ بحمرةٍ خفيفةٍ، لا تكادُ تبين. وإذْ أرادَ أنْ يفسّرَ مضمونَ الورقة التي تثبّتت بيْن يديّ، رنّ هاتفُه فجأةً، فجعلَ يفتّشُ عنْ أيّ الأجهزةِ الثلاثةِ يصوّتُ. أولجَ اليدَ في جيوبِ الدّاخل منْ بذلتِه، وأولجها في جيوبِ الخارجِ. أيّ النقّالات الثلاثة يموسقُ، أهوَ الاتصالات أمْ الميدتيل أمْ الإينوي؟ باغته الصوت، فاضطربَ، لكنّه داورَ مكشّراً بما يشاكلُ الابتسامة. لمْ أعلّقْ بكلامٍ. التزمتُ الصّمت، حتّى إذا أخرجَ الجهازَ الصحيح منْ جيبِ سرواله، قلتُ له أنْ يأخذَ راحتَه. وكنتُ أَختبرُ لباقتَه. بيْدَ أنّ المثقفَ عمدَ إلى إسكاتِ الصّوتِ بضغطةٍ نافذةٍ منْ إبهامهِ على العلامة، فخرسَ الجهازُ في التوّ. وتلكَ لعمري حركةٌ لنْ يفعلَها سوى مثقّفٌ راسخٌ، فشكرتُه وأجزلتُ. وشكرَ هو الآخرُ، وقال: عفواً. ثمّ سوّى قعدتَه، ففسخَ الركبةَ عنِ الركبةِ، موسّعاً ما بيْنهُما، وطفقَ يمرّرُ الكفّ على ربطة العنقِ، ويمسّدُ عليها، منْ الفوقِ إلى التّحتِ. وبعد حينٍ، أمسكَ ذيلَها بأصابعِه، وراحَ يجرّ إلى الأمام. بدا لي كما لو يفعلُ دونما شعورٍ. ماذا دهى المثقّف؟ سألت في سرّي. وما نشبَ أنْ تداركَ الرّجلُ سهوَه، واقترحَ أنْ يتلوَ أسماءَ عيّناتٍ منَ الملتقياتِ، ويفصلَ في مشمولاتها. ولم ينتظرْ ردّاً منّي، فشرعَ في سردِ أسماء اللاّئحة كلّها كما لو يحفظُها عنْ ظهرِ قلبٍ، بينما صرتُ، منْ ناحيتي، أستعرضُها قدّام عينيّ، ومؤشّراً عليها بالسّبابةِ اليسرى، ومتوقّفاً، بيْن الفينةِ والأخرى، عندَ أسماء بذاتِها أستفسرُ وأستوضحُ. والرّجلُ في كلّ ذلك لا يكفّ عنْ تقديمِ إضافاتٍ منْ قبيلِ أنّ جلّ المؤتمرات التي تشرّف بتنظيمِها لاقتِ النّجاحَ الباهر، وكانت مجمعَ مثقّفاتٍ ومثقّفينَ وأديباتٍ وأدباء جرتْ بأخبارِهم الركبانُ والألسنُ في كلّ المحافلِ، وتناقلت صورهم، في المنصاتِ وفي المآدب وبيْن الأجواقِ، صفحاتُ الفايسبوك والتويتر والمواقع الإلكترونية، ورُفعت عنْهم آياتُ الولاءِ إلى السدّة العالية، هناك في العاصمةِ.
ولستُ أدري كيفَ تغافلتُ الانتباهَ، طوال هذه المدّة، إلى الخاتم الزمرّد في خنْصرِ اليد اليمنى والخاتم الذهبِ في بنْصرِ اليد اليسرى، بينما هو يلوّح بهما في وجهي معضّداً شروحاتِ اللّسانِ ببريقِ الخاتميْنِ. وكأنّما غَشيّتْني حالةٌ منَ السّرنمة العجيبةِ، إذ صرتُ أتابعُ حركةَ اليديْنِ وهيَ تشوّرُ في جميعِ الاتجاهاتِ. وعلى حين غرّةٍ، رأيتُ الرّجلَ في هيئةِ كائنٍ أبيضَ مجنّحٍ تحيطُ بهامتِه طفاوةٌ تشعُّ، وقد انشالَ بي بعيداً على بساط منَ ديباجٍ إلى مؤتمرٍ يضجّ بالتصفيقِ والهتافِ. وصدّقني، أريدُكَ أنْ تصدّقني رجاءاً، فقد سمعتُ بأذنيّ هاتيْن الجمهورَ الحاضرَ يردّدُ اسمي، دونَ الأسماء جميعها: السي محممماد، السي محمد، هووو هووو. السي محممماد، السي محمد، هووو هووو. تماماً، على غرارِ ما كان يفعلُ مع اللاّعب المغربي صلاح الدين بصير. ولمْ أرجعْ إلى مكتبي وكرسيّ منْ هذه الرّحلة الجوانيّة سوى على وقعِ نقرةٍ منْ عقدةِ إصبع الرّجلِ فوقَ سطحِ المكتبِ. هل كان يعنيني بتلكَ النّقرةِ؟ هل رأى منّي مروقاً عنْ مدار تركيزه؟ كدتُ أسألُه، فإذا به يرفعُ بصرَه إلى أعلى المكتب. ملتُ بنظري حيثُ مالَ نظرُ المثقّفِ. كان يرمقُ إلى صورةِ رئيس الدّولةِ في عرشِه. ثمّ ما عتمَ أنْ جعلَ يطوفُ بالعينيْنِ في كلّ صور جدران المكتبِ. وقدّرتُ، وقد حاصر بالنّظر الصورَ، أنّه سيستوضِحُني حولها. بيْد أنّني فكّرتُ أنّه لا يعدمُ رأياً في هذه المواقعِ الأثريّة بالجهةِ، والتي خصّ لها مركزٌ بالمدينةِ هذه اللّوحات. وأعلمُ أنّه، وهو المثقّفُ، الأدرى بمخزوناتها. لمْ يسألْ إذنْ. ولمْ ينبسْ بكلمةٍ أيضاً، فيما هو يوصوصُ في الكتب التي تصدّرت رفوف الخزانة الوحيدة بالمكتبِ. لا شكّ أنّه كتم ضجرَه منْ فقرها الفاضحِ. متيقّنٌ أنا منْ أنّه يضمرُ تكشيرةَ استهجانٍ إذْ بدتْ له الرفوفُ خاليةً منْ إصداراتِه. أنا عاينتُ هذه التكشيرة المبطنة في خزرات العينيْنِ. لا يمكن أنْ تغيبَ عنْ حدْسي الفِطْري. لمْ يعلّق، لكنّه لعقَ باللّسانِ شفتيْه، مثلما لو يتمطّقُ. تابعتُ مَسْحةَ لسانِه فوق الشّفتيْنِ، ورغبتُ لو أنهضُ منْ موضعي وأمشي صوبَ البابِ، ثمّ أقبضُ على المسكةِ النّحاس، وأسحبُ البابَ الخشب مفسحاً للفراغِ، وأطلبُ للمثقّفِ أنْ يرْتَبَ ويقيسَ عرضَ كتفيْه بنظيرِ المدخلِ. غيرَ أنّني جبنتُ، ولمْ أجرؤْ.
الفنجانُ الذي استفّ الرّجلُ قهوتَه آنَ حُطّ قداّمَه، أخذه في يدِه، منْ جديدٍ، ودقّقَ النّظرَ في قاعِه، ثمّ خاطبني مثبتاً عينيْه تارةً في عينيّ، وتارةً أخرى في دافنِ الفنجانِ: إنّ حظّكَ موفورٌ يا السي محمد. الفنجانُ ينبئُكَ بأنّكَ ستصيبُ في المهنة نصيباً في الترقيةِ تقرّبُكَ، لا محالةَ، إلى ديوان الوزير، وفي الحياةِ ما سيوسّعُ عليك ويرفّهُ. وستنالُ ما لمْ يكنْ في الوارد قبلَ هذه السّاعاتِ المباركةِ.
طفحَ كيْلي، وبلغَ كأسُ الضّجرِ منّي أصبارَهُ. ولكمْ حرصتُ على ألاّ أُظهرَ حنقاً طوال القعدةِ، فلمْ أتأفّفْ، ولمْ أتفوّهْ، ولم أتنَحنحْ. الآن، طفحَ كيْلي. وعزمتُ في خاطري أنْ أُصرّحَ بها على المكشوفِ. قلتُ له إنْ أسعفني عقلي، على بساطة فهمي لهذا النحو منَ المسائلِ، فأنتَ مموّنُ لقاءاتٍ، أو بالأحرى أنتَ تريتور، جئتَ تبحثُ معي عنْ إبْرامِ صفقةٍ. المثقّفُ قفزَ في مكانِه على الكرسيّ كما لو شُكّ كشحُه بمخْرزٍ، وزوّى ما بيْنَ الحاجبيْنِ. ثمّ مسّدَ على ربطةِ عنقِه وعثنونِه، وقال: أنا كاتبٌ، ومنشّطٌ ثقافيّ، لو سمحتَ، مثلما هو مقيّدُ في البطاقة. انظر إلى البطاقة، ترى!