أنا التفّاحةُ، وهذي ظلالي
أنا التفّاحةُ، وهذي ظلالي
محمد الهجابي
أولاً_ هو:
لمْ أنمْ النّومَ الذي أحتاجُه هذه اللّيلة. أبقاني التّفكيرُ مُسْهَداً في معظم الوقتِ. أتقلّبُ فوق الفراش على الجنب الأيمن، وأتقلّب على الجنب الأيسر. أعودُ فأتمدّدُ على الظهرِ. ثمّ أتشبّحُ بطولي على بطني داساً إحدى اليديْن تحت المخدّة، وأخرى فوقَها. لا أعانقُ المخدّةَ، لكن الذراع تنطرحُ عليها كيفما صادفَ. في وقتٍ، حشرتُ رأسي تحتَ المخدّةِ، بيدَ أنّ الوسنَ هجرني. وعبثاً، سعيت لكيْ أغمضَ العينيْنِ. هيهات، كيفَ أنام والبالُ مشغولٌ. البالُ تشغلُه هذه الفكرة الكابسة!
الغفواتُ القليلة التي اقتطعتُها اقتطاعاً منْ هذه اللّيلةِ الطويلةِ لمْ تكنْ لتملأَ الخصاصَ الذي اعتورني. أفتقدُ إلى النّوم وأنا أفارق الفراشَ صباحِ هذا الخميسِ. يعوزُني القدر الكافي الذي يسمحُ لي بمباشرةِ دوام اليوم. كيفَ سيكونُ يومي وقد أضعتُ الرغبة في العمل بعدَ ليلة شبه بيضاء؟
لمْ يجافني النومُ لهذه اللّيلة فحسبُ. في الأيّام الأخيرةِ، صرتُ مدمنَ أرقٍ. منذُ دهمت الفكرةُ، هذه الفكرةُ، دماغي خاصمني النّومُ إذْ آوي إلى الفراش كلّ ليلةٍ. وليلي بات أبيضَ. بلْ هو أسودٌ في الغالبِ، لكن منْ غير أنْ يكحلَ جفنيّ. تبقى عيناي مشرعتيْن كدرفتيْ النافذة، أو نصفَ مغمضّتيْنِ كما لوْ أصيبتا بالغطشِ. يكونُ ليلي، في أوقاتٍ منْه، مسفوعاً بصفرةٍ متى لوّنَ سوادَه ضوءُ الأباجورةِ فوق الصوانِ.
لا أطالعُ كتاباً. ليس لديّ رغبة في القراءة. لم تعدْ الكتبُ تغريني، ولا الدورياتُ أيضاً. فقط أفكّرُ. هذا هو حالي منذُ شهرٍ تقريباً. يحدثُ أنْ أشعلَ جهاز التلفاز، وأفكّرَ فيما أنا أتفرّجُ بالنّظر على فيلمٍ. في الواقع، أتلهّى بالسينما بينما الفكرة تطرق عقلي بمهمازِ حديدٍ. تكونُ عيناي مسمّرتيْن في الشّاشة والعقلُ يسبح في شاشة رأسي الدّاخلية.
وها أنذا في هذا الصباح، أفتحُ فمي على وسعه، وأصدرُ صوتاً أشبهَ بالخرشفة، ولا أني أتثاءبُ. تتمواج الحروف والخطوط قدّامي. وأرى زملاء العمل وقد تفطّنوا لما بي، وباتوا يتخازرونني من طرفٍ خفيّ. ومنهم منْ رثى لحالي. لعلّه رثى عنْ صدقٍ، ولا أقطعُ بشيءٍ، فاقترب منّي يستوضحُ. لا أمنحُ رداً شفياً ومعقولاً. فقط أداورُ بتعلّاتٍ أعرف أنّها لنْ تصمدَ طويلاً. لا أتقنُ فنّ المداورةِ. وأفشلُ، في الغالب، في التكتّمِ على مشاعري. مشاعري يفضحُها مُحيّايَ.
وحده عمّار، دنا منّي ، ونصح بالعودة إلى مطرحي وأخذِ قسطٍ منَ الراحة. عمّار، وحده الذي أعلمُه، أحياناً، بما يجيش به الخاطرُ، ويطفو على غلاف القلبِ. الرجلُ، لا شكّ، لاحظَ هذا الاعتوار الذي دهمني قبل أيّامٍ حتّى ولو لمْ أعلِمه بخبرٍ. ربّما هو حدسه، خاصته المميّزة، هو الذي هيّأه، لكنّه لمْ يشأْ فيسأل. ولمْ ينصح بدافعِ هذا التّعب الذي شفْتُ عنْه هذا الصباح. وأنا أخذت برأيه، فغادرتُ. ركبتُ السيارة، ورمتُ جهةَ البحرِ. ليس البحر تعييناً، وإنّما ناحية الشرفة المطلّةِ على النهر والبحر معاً. عند تقاطع ماء سبو وماء الأطلسي، أرسيتُ السيارةَ جنب الطريق الأسفلت المؤديّة، عبر المنحدر، إلى مهدية. هنا، في هذا العلو، ركنتُ السيارةَ، ثمّ حملتُ بصري إلى الأفق الرحيبِ. لمْ أفتح الراديو. ظللتُ أنظرُ إلى البحر ومهدية تارةً، وأتملّى في مصبّ النهرِ والمعمل تارةً ثانيةً. لا أطيلُ النّظرَ إلى المصبّ، فأعوّجُه إلى معمل تصبير السمك. أنظرُ إلى المصبّ خطفاً، ثمّ أحيدُ عنْه بالبصر، على الفور، إلى المعمل. ولستُ أدري إنْ كنتُ، في تلكَ اللّحظات، أدركُ مدى زرقة السماء وصفاء أديمها. أحسبُني لمْ أرفع لحظةً واحدةً نظري إلى السماء. لمْ ألحظ أين استقرت الشمس مثلاً، أهي في بهرة السماء أمْ لا تزال تدرج نحوها؟ لمْ أهتم بالساعة. أكلتِ الفكرةُ هذا الاهتمام. في البعيد، بدت لي مراكب الصيد متفرقةً تسير ببطء شديدٍ. لكأنّها لابدة في مواضعها. ربّما منهمكة في العملِ. تغرفُ الحوت بالشباك منْ قعر الماء، وتفرغ الحمولة فوق بسطة اللّوحِ، ثمّ تملأ منْ جديدٍ وتفرغ. أتخيّلها كذلك وهي في الأفقِ تظهرُ كما لو كانت راسيةً، أو هي تزحف فوق الزّرقة بمهلٍ. في الواقع، أنظرُ إلى المراكب وأتصوّرُ عشرات الأيدي تشتغلُ، فيما الحلوقُ تردّد الأهازيج. ثمّ جاء وقتُ شعرتُ فيه بثقل جفنيّ. هلْ غفوتُ؟ لمْ أغفُ، لأنّ عيشة لمْ تترك لي فرصة كيْ أفعلَ. لمْ أغفُ إذ لمحتها مباشرةً أمامي في سروالها دجينز الأزرق، وقصتها الغلامية، وحذائها البرادا الوردي، في ظهيرة يوم الخميس هذا، منْ شهر أبريل هذا، منْ سنة 2006 هذه.
ثانياً_ هي:
العادةُ جرت أنْ أغادرَ المعملَ رفقة صويْحباتي. هنّ لسنا بصويْحباتٍ، كما هو متواضعٌ عليه بالضبط ، قدر ما هنّ بنات الحيّ، حي مهداوة. أنعتهنّ بالصويْحبات تجاوزاً إذنْ. فاطمة، وحدها الأكثر قرباً منّي. أقدّرُ أنّ فاطمة صديقةٌ. وعلى الرغم منْ وجود بيتِ عائلتها على مبعدةٍ منْ بيتنا، بأزيد من دربٍ، فإنّها أقربُ البنات إليّ. أستطيعُ أنْ أقولَ إنّها صديقةٌ حميمةٌ بمقتضى ما تقاسمناه منْ أشجانٍ. تعرفُ عنّي أسراراً، ومحّضتني، بالمقابل، منْ أسرارها غير القليلِ. الثّقة بيننا متبادلة. ومع ذلك، أغار منها. يجعلُني جمالُها الخارقُ أغارُ. قدُّها الممشوقُ، وقوامُها الأملدُ، وعيناها الواسعتانِ، وشفتاها الممتلئتان، ونهداها الناتئات والمكوّران وسع قبضة اليديْن، وشعرُها الطويلُ الأصهبُ الفاتحُ، هذه التركيبة جميعها تجعلني أغبطُ البنتَ حقاً. أيْنها منْ قوامي الناخص، ووجهي الإهليلجي، وشعري الغلامي الذي أغطي به عنْ وهَن بصيلات زغبه؟ هذه البنتُ أغار منْها. ولا شكّ أنّها أيضاً أشدّ ذكاءاً. أزعمُ أنّها ذكيةٌ، حتّى وإنْ شفّت عنْ قدرٍ من خراقةٍ. أتجشمُ عناءاً لا يتصوّرُ كي لا أفصحَ عمّا يخالجني منْ حزنٍ كلّما قارنتُني بها. وبالرغم منْ ذلك، فحظُّ فاطمة هو منْ طراز حظّي أنا. قد يزيدُ عنه في جانبٍ، وقد ينقصُ عنه في جانبٍ. بيدَ أنّهما لا يختلفان منْ حيثُ الجوهر. وفي هذا، ألاقي بعض عزاءٍ، إلى حد ما. لمْ نجد منَ الرجالِ منْ يطفئ جمرتنا التي لا تكفُّ تستعرُ. وها قد تخطّينا معاً النصف الثاني منْ عقدنا الثالث.
أتّجهُ نحو الثلاثين منَ العمر، ولمْ أعثرْ على رجلي. امرأةٌ منْ كفوي، وبهذه الخِلقة، لا يمكن أنْ تثيرَ انتباه أحدهم، أهمسُ في خاطري. وفي كلّ الأحوال، لنْ تستثير سوى شهوة بحّارٍ منْ أبناء الحيّ. وأنا لا أجدُ ما يجعلني أستجيبُ لمتعوسٍ لا يفعلُ غير مجّ سيجارة محشوّة، واستهلاك ناصية الدرب وقوفاً، واجترار كلمات معدودات تتحرّش بالبنات. لا شيء في هؤلاء المتاعيس، منْ أولاد الحيّ، يغري. أنا أرغبُ ، بالأحرى، في رجلٍ يريحني منْ وطءِ هذا التعب. تعبتُ، وأريدُ رجلاً يخلّصني منْ همّ المعملِ. أحبُّ أنْ أصيرَ أمّاً. اثنان فحسبُ، ولد وبنت، يكفيني كيْ أزيّنَ بهما بيتي، وأشدَّ بهما رَجُلي إليّ كما الخيمةُ إذ تُرزّ أوتادُها إلى الأرض فلا تتململ.
هذا اليوم، أقصدُ في ظهيرة هذا الخميس، لمْ أرافق صويْحباتي. قلتُ لفاطمة أرغبُ في أنْ أتمشّى بمفردي. مطّطت هي شفتها السفلى، وتقحّمَتني بعينٍ نافذةٍ، ثمّ صعدت إلى الحافلة، وما عتمت أنْ لوّحت لي بيدها، بينما الحافلة تبتعدُ. أظنُّ أنّها فعلت بيدها اليمنى، فيما اليسرى تمسكُ بالمقبضِ.لمْ أركب الحافلة. فضّلتُ السير على القدم. وقلتُ في نفسي: ما رأيكِ يا عيشة، يا لهبيلة، في أنْ تسْلُكي شطرَ القصبة، هناك في الفوق، عبرَ العقبة. تصعدين بتؤدةٍ، الخطوة تفترشُ عقبَ الخطوةِ إلى غاية القمّةِ. وبيْن الفينة والفينة تلتفتينَ إلى الخلف، فتتملّيْن بمنظر البحر والمصبّ ومهدية. قلتُ ذلك في خاطري، وسرتُ صوب رصيف الطريق الأسفلت أصعدُ العقبةَ. أضعُ القدمَ وأردفُها بالأخرى. وأستريحُ للحظاتٍ، ثمّ أستأنفُ المشيَ، وأفكّرُ. أي نعم، كنتُ أفكّرُ.
الذي دفعني إلى اختيار هذا الصعود هو الرّغبةُ في التّفكير. تخلّيتُ عنْ صويْحباتي، وانصرفتُ عنِ الحافلة، لكيْ أشغّلَ ذهني قليلاً. وما الضيْر في ذلك؟ يجدرُ بالواحدِ منّا أنْ ينظّف بيتَه الداخلي منْ حينٍ لآخر. ولقد قرّرتُ أنْ أجريه بينما أنا أطلعُ هذه العقبة الكأْداء. في الحقيقة، لا أفكّرُ. بل أقلّبُ في فكرةٍ بعينها. أقلّبُ فيها منْ كلّ الجوانبِ. وعلى ما يحكمُ عقلي منْ بساطةٍ، أحاولُ أنْ أتبيّنَ الفكرةَ منْ أكثر أوجهها المتاحةِ. أعترفُ بأنّني لستُ بذكاء فاطمة. هي أمهرُ في عقْلِ المشكلات وفكّ شيفرات مبهماتها. عقلي أنا لا يسعفني على فهم المستغلق منَ الأمور. هذا عقلي، وهو بسيطٌ. وعليه، لا أشكّ في أنّ فاطمة، لو كانت هي المعنيّة، لكانت أتقنت التفكيرَ ووجدتِ الجواب. لو كانت محلّكِ، ماذا كان بوسعها أنْ تفعلَ هي فتفعليه أنتِ، يا عيشة، يا لهبيلة؟ أقولُ مع نفسي وأنا أطرقُ مربّعات الرصيف بصعوبةٍ ظاهرةٍ. أحرّكُ القدميْن كما لو أجرُّهما جرّاً. الحذاءُ البرادا الرياضي الوردي لمْ يعدْ خفيفاً في قدميّ. بات أثقلَ منْ كرة حديدٍ. بعد وقتٍ، لمْ أعد ألتفتُ إلى المصبّ أو البحرِ أو مهدية أو المعمل، هناك في الأسفلِ. فكري تركّز على كيف أوصلُ قدميّ إلى رأس العقبة. في الواقع، أفكّرُ في العقبة، وأفكّرُ في الفكرةِ، كيف أنساها؟ لو كانت فاطمة هي التي تصعدُ الآن، هل كانت ستفكّرُ في المشيِ أمْ ستفكّرُ في الفكرةِ؟ حتماً، ستحسمُ في القرار بسهولةٍ. أغبطُها على جمالها القاتلِ، وأغبطُها على ذكائها الحادِّ. أقطعُ ذراعي إنْ زعمتُ أنّني لا أغارُ منْ هذه البنت.
أذكرُ أنّني ضحكتُ على الرجلِ. لمّا طفقت البنات يتندّرن على وقوفه المشبوه ذاكَ، بجوار الموقف، قاسمتهنّ الضحكَ. شخصياً، لمْ أتعيّن ملامحَه جيّداً، حتّى وإنْ تجلّت لي معالمٌ منْ وسامةٍ فارزةٍ لا تخطئُها العينُ. والرجلُ وسيمٌ حقاً خارج السيارة البوجو. كذلك رأيتُه وهو يدنو منّي في إحدى المرّات. لعلّها تكون الرابعة منْ ملازمته للمكانِ ظهيرةَ كلّ سبتٍ منْ شهر مارس. في هذه المرّة الأخيرةِ، غادر السيارةَ واقتربَ منّي كثيراً. جاءني على مهلٍ. لربّما اهتبلَ فرصة وجودي لوحدي بالموقفِ. فاجأَني حضورُه في تلك الظهيرة، ولمْ يفاجئني دنوُّه منّي. فاطمة قالت، والبناتُ قلْنَ، إنّ الرجلَ يتقصّدُني أنا بالتحديد. أنا عيشة، لهبيلة، كان الوسيمُ يأتيني ظهيرة كلّ سبتٍ، فيركنُ البوجو في الجانب، ويشرعُ في ملاحقتي ببصره. يبقى راسخاً بالمكان إلى غاية انطلاق الحافلة. فعلَها لمرّات ثلاثٍ، عددتُها. ثمّ قالت البناتُ إنّ المعنيّةَ منهنّ بعينيْ هذا الوسيم لنْ يكون سوى أنا. بناتُ المعملِ عرفنَ. واتجاه نظره أكّدَ. وسرعان ما كففنَ عن الضحكِ لمرآه. لمْ يعدْنَ يتندّرنَ، بلْ صرنَ يشجّعنني. قلْنَ لي بعبارةٍ واحدةٍ: هذه فرصتُكِ، يا عيشة! وأنا قلتُ في نفسي: وهذا هو العجبُ نفسُه، كيف أصدّقُ؟
ولأكْنهَ الفِصَّ منْ شأنِ الوسيم، زايلتُ المعمل بسرعةٍ قبل أنْ يلحق بي سربُ البناتِ. بتتُ أعرف ماركة سيارته. ولعلّي أحفظُ رقمَها كذلكَ. وأعقلُ عدداً لا بأس به منَ الحركات التي يأتي وقتما أتكشّفُ له عند بوابة المعملِ. هل أضحى يثيرُ فضولي؟ وبمَ أفسّرُ هذا الارتباك الذي يحكمُني كلّما تقاطعَ فيه بصرُنا؟
الوسيمُ نزل منْ سيّارته هذه المرّةِ، ودنا منّي. تحرّكَ بتباطؤٍ بالغٍ خافضاً عينيْه إلى الأرضِ. وفقط لمّا بلغ الموقفَ نظرَ في عينيّ، وابتسمَ محيياً. وهلْ أُسمّي أنا ما فترت عنْه شفتيّ، بالمقابلِ، ابتسامةً؟
ثالثاً_ أنا الفكرةُ، أنا التفّاحةُ:
أنا الفكرةُ، لكن لستُ بالتفّاحةِ. أنا التفّاحةُ بمعنىً منَ المعاني. لربّما أُشبهُ التفّاحةَ في كون منْ رغب في اجتراحي عليه أنْ يقشّرني. الأفضل أنْ لا يتوسّل بالموسى، فقد أستعصي عليه. أتحصّنُ بالعناد في وجه كلّ مغتصبٍ.
والحالُ، كيف نبتتُ في ذهنهما، هو قبل أيّامٍ طويلةٍ، وهي قبل ذلك بكثيرٍ؟
هو، حينما مرّ، ذات ظهيرةٍ، قرب البوابة الرئيسة لمعمل تصبير السمكِ وتعليبِه، فشاهدها بيْن البنات ينتظرنَ وصول الحافلة. بدت له جميلةً في وجهه الصغير وشعرها الغلامي، فأوقف السيارةَ في الجانب. ومنَ المرآة العاكسة، أخذَ يتابع حركاتها فيما هي تناوشُ البنات. وسمع ضحكتَها. تلك الضحكة التي سمعها في منامته، لكم مرّةٍ، قدّرَ للتو أنّه يسمعُها الساعةَ في موقف انتظار حافلة العاملات. شفّت له البنتُ عنْ وجهٍ ضاحكٍ آسرٍ، فتثبّت في مكانه، في عقر السيارة، ينظرُ. ثمّ أغمض عينيْه يستعيدُ رجع الضحكة من عمقٍ يمتدّ إلى ما يربو عن العقد ونصفه. الضحكة إيّاها فات له أنْ سمعَها، لا مشاحة في الأمر. وها هو يسمعُها منْ جديدٍ. النبْرُ نفسه، والنغمةُ ذاتها. كيف يحصل هذا؟ تساءلَ وهو يفتح العينيْنِ. ثمّ أغمضهما وهو يشيّع في ظلمة بصره الحافلةَ إذ تنأى عنْه.
هي، عندما انتبهت البناتُ إلى السيارةِ الرّاسيةِ حذاء الطوار، على بعد أمتار فحسبُ منْ موقف حافلة المعمل، ورُحنَ يتندّرنَ على الراكب خلف الزجاج، فشاركتهنَّ، هي أيضاً، الضحكَ. ثمّ إذا بالمشهدِ، وقد تكرّرَ لمرّاتٍ، ينحو جهةً جعلت البناتَ يتغامزْنَ عليها وعليه، ويومئنَ إليهما ضاحكاتٍ. هلْ كان عليها أنْ تضحكَ، أقصدُ هلْ كان عليها أنْ تتورّطَ مع البنات في الضحكِ، فيما هي تحدسُ أنّ قصةً ما هي في سبيلها إلى التخلّقِ في ما بينها وبين صاحب البوجو؟
أنا الفكرةُ، وأنا التي أوحيتُ له في ذلك السبت، في رابع مرّة يترصّدُ لها عند بوابة المعملِ، بأنْ يقتربَ منها، ويحادثَها. رابعُ مرّةٍ؟ لا، ليس الأمرُ كذلك تماماً. هي ثالث مرّةٍ بالأحكم، إذا ما استثنينا المرّة الأولى التي أبصرَ فيها البنتَ صدفةً وهو يرومُ مهدية؛ الصدفةُ التي أومأت إليه بتذكراتٍ اعتقدَ لزمنٍ، خاطئاً، أنّها طُمست.
أنا الفكرةُ، وأنا التي أفتيتُ عليه بالابتسام أيضاً. والابتسامةُ تفتح القلوب، كما هو معلومٌ، حتّى وهي موغلةٌ في عمَهِها. وهو قريبٌ منها، ولكأنّه يحسّ بتلاحق أنفاسها فيما هي تصعد في زوْرها وتهبطُ، ابتسم لها، فابتسمت له بدورها. ثمّ كان كلامٌ بينهُما، فموعدٌ، فلقاءٌ. ثمّ موعدٌ، فلقاءٌ، إلى أنْ غشيَها فوق فراشه ذات أحدٍ، فألفاها مفترعَةً. أنا الفكرةُ، وأنا التي حملتُهما على قضمِ التفّاحة دفعة واحةً، وبالتناوب كذلك، مساء يوم أحدٍ مشهودٍ. هنا، عند هذه المحطّةِ بالذات منْ علاقتهما، بدأَ النّومُ يجافي الرجل.
والفكرة التي دسستُها في ذهنه، ولمْ تعدْ تبارحُه، هي منْ بنات أفكاري، أنا الفكرةُ الأمُّ. هكذا إذن، وعقبما جعلتُه يقرِنُ بيْن طيفِ امرأةٍ عبَرَ ماضيه بعاصمة البلد، قبلَ هذا التاريخ بكثيرٍ، وبيْنَ جرم عيشة، العاملة بمعمل التصبير، عزّزتُ هذا الشبه بيْن البنتيْن بتعلّقٍ للرجل بعيشة على غرار تعلّقه المرضي بامرأة العاصمة. بالواقع، حضّرتُ طيفَ البنت الأولى بقوّةٍ، ثمّ أنزلتُ الطّيف إيّاه في هيئة عيشة؛ في هيئتها تماماً. وبذا، فتحتُ أفقاً للدراما. خمّنتُ أنّ هذا الأفق الجديد لربّما منحَ الحكايةَ مسوّغاً للاستمرار. دفعتُ عيشة إلى الكذب. في قعدتهما الثانية، بمقهى يطلّ على وادي سبو، ألمعتُ إليها بأنَ تكذبَ على الوسيم. قالت له: أنتَ رَجُلي الأوّل. والرجلُ صدّقَ زعمَها (أبهذه البساطة صدّق؟)، وقبّلَ خدّها، ومسحَ بكفه على ظهر كفّها، بينما حطّت هي رأسَها الصغير على كتفه، وأرخت رموشَها. فاطمة، صديقتُها، لم تكن لتفعلَ. كانت ستداورُ، وتؤجّلُ الحديث في الموضوع. في الحقيقة، عيشة كذبت لمرّتيْن. كذبت على الوسيم، وكذبت علينا. ألمْ تقلْ إنّها لنْ تمنحَ نفسها لبحّار منْ أبناء الحيّ؟ ألمْ تقلْ إنّ هؤلاءِ متاعيس لا يستحقّون جسدها على اعتواراته؟ كانت تكذبُ. الوسيمُ ذهلَ أمام الحقيقةِ الصادمةِ، مساءَ ذلك الأحد، ولمْ يعد ينامُ النّوم كلّه. منذُ ذلك الحين، غدا يسهدُ معظمَ ليلِه.
وها هي عيشة تصعدُ العقبةَ لهثى، وفي أعلى القمّة قريباً منَ المنحدرِ، توجدُ سيارةُ بوجو راسيةً، وفي دافنها الوسيمُ مغمضّ العينيْن في ما يشاكل الإغفاءةَ. وأنا الفكرةُ، زرعتُ في ذهنِ كليْهما أفكاراً صغيرةً، ثمّ سقتُهما إلى الهضبةِ، ظهيرةَ يوم الخميس هذا، عبر اتجاهيْن متخالفيْن. ولعلّي هيّأتُهما للقبول بمخرجٍ ارتأيتُه لهما، إنْ هما تصرّفا بحسبِ إملاءاتِ الحكايا المعروفةِ.