نظرات أعمى

غسان موسى الشريف

[email protected]

[1]

وقف أعمى بين يدي الله فقال بقلب منكسر وراج:

- رب إني قد مسني الضر، فرد إلي بصري.

ونام ليلته تلك ولسانه لا يكف عن التضرع إلى الله برد بصره فرأى في المنام رجلاً مهيباً يقترب منه ويمسح على عينيه وقال:

- لعل الله يريد أن يريك شيئاً.

استيقظ الرجل من نومه فزعاً وهو يشعر بألم في عينيه وصداع شديد, وبينما هو يتلمس السرير من حوله إذ به يرى خيوط الفجر تتساقط على غرفته, لم يصدق ما رآه فأخذ يفرك عينيه بشدة ثم تلفت على يمينه فرأى غرفته المتهالكة فضحك وانشرح، ثم إلتفت على يساره فرأى زوجته النائمة وهي تعطيه ظهرها، وبينما هو يهم أن يهزها بقوة كي يبشرها بالخبر، خطرت بباله فكرة أن يفاجئها، فحبس نفسه وطارت ضحكة من بين شفتيه وقال بسرعة وبأنفاس متلاحقة:

- الحمد لله، الحمد لله.

تنبهت زوجته والتفتت إليه وهي نعسانة، فأغلق الرجل عينيه ثم قام من سريره وهو يكاد يطير من الفرح متلمساً جدران حجرته كعادته ومشي ببطئ إلى أن دخل الحمام.

وقف الرجل أمام باب الحمام وعليه ابتسامة واسعة وبقي يتأمل ما حوله ببقية النور الذي دخل إلى حجرته ثم دخل إلى الحمام وأغلق بابه بسرعة كي لا تلاحظه زوجته, ولكن سرعان ما غطى الظلام كل شيء فليس للحمام نافذة, فبقي في مكانه حائراً ثم تلمس الجدار من حوله لعله يجد مفتاح النور، وعندما وجد المفتاح أنار المصباح ثم إلتفت بسرعة إلى المرآة, ولم يكد يرى نفسه حتى رجع إلى الوراء بسرعة فخبط رأسه في الجدار بقوة إستيقظت على إثرها زوجته ونادت عليه:

- سعيد، ما بك؟

ثم تابعت:

- ولماذا تفتح نور الحمام؟

أغلق سعيد النور بسرعة وهو ينهج ولا يكاد يلتقط أنفاسه:

- لا عليك يا خولة، لقد فتحت النور بالخطأ.

نهضت خولة من سريرها وبدأت في ترتيبه وهي تقول:

- هذه أول مرة أراك تفتح فيها النور يا سعيد!

 ثم تابعت وهي تقترب من الباب:

- وما أثار عجبي أنك أطفئته أيضاً، وكأنك كنت تنظر إلى نفسك في المرآة!

شعر سعيد بالتوتر وأطلق ضحكة عالية وقال بسرعة:

- الله يسمع منك يا امرأة.

ثم سكت وهو يصغي إلى زوجته ويضع يديه على الباب ويحاول كتم أنفاسه المتلاحقة، فسمع وقع أقدامها وهي تخرج من الغرفة.

 [2]

بدأ سعيد بإستخدام يديه كعادته في الحمام ثم فتح الباب ببطئ والتفت فلم يجد خولة في الحجرة، فمشى بجانب الحائط ليغلق باب الحجرة ثم وضع يده على الباب وهو يتأملها والشمس تدخل إلى أرجائها، سرير صغير مغطى بخرق مهلهلة وخزانة قديم بلا درفات وطاولة صغيرة بجانب باب الحمام تتسع لقلة من العلب المتناثرة عليها وفوقها مرآة صغيرة مكسور طرفها تقع مباشرة أمام باب الحجرة.

رفع سعيد رأسه إلي المرآة وهو يسند ظهره ويديه على الباب فرفع حاجبيه في ذهول وكاد أن يغمى عليه من الدهشة، لقد كان أصلعاً ذا جبهة عريضة وحاجبان غليظان، وهو إلى القصر أقرب وله بطن كبير, فلم يطق أن يتابع النظر في المرآة فتحرك نحو الشباك وقد علاه الذهول ثم رفع عن النافذة غطائها المرقع، وبينما هو غارق في تأملاته بالشارع فتحت خوله عليه الباب فإنتبه إليها وأغلق عينيه ولم يلتفت، فاقتربت منه ببطئ حتى جاءت من أمامه وقالت بصوت ملئه الدهشة:

- أتبصر يا سعيد!

تبسم وقال ساخراً وبصوت مرير:

- ألم تتزوجيني أعمى يا خولة!

شعرت زوجته بالخجل فالتفتت ودخلت إلى الحمام صامتة.

أعاد سعيد ستارة النافذة بسرعة كما كانت عليه ثم جلس على جانب السرير محبطاً وهو لا يدري ماذا يفعل، إنه يعيش في شارع أشبه ما يكون بمكب للنفايات يفترشه الغبار وتحيط به الكآبة وترتص على جانبيه البيوت الصغيرة بألوانها الصفراء الباهتة بدون ترتيب, والأطفال الصغار يلهون في جنبات الشارع بأشكال لا تدعوا إلى الراحة، فقال في نفسه:

- ما هذا، يبدوا أنني لن أستيقظ من المفاجآت في هذا اليوم!

وقفت خولة من وراءه فأحس بها وهي تتأمله ثم قالت:

- ألن تخرج من الغرفة اليوم؟

هز سعيد رأسه موافقا ورفع يده وقام فجاءت خوله إلى جانبه وأمسكت بيده وخرجت به إلى صحن الدار.

ظل سعيد مغمضاً عينيه وهو يأكل طعام الإفطار في صمت، ثم قام إلى الحمام ليغسل يديه ورجع ليجلس على الكرسي الذي يجلس فيه كل يوم. وعندما خرجت خولة إلى العمل, قام يتأمل منزله الذي ينتشر في جنباته الفقر من كل ناحية. لم تكن داره سوى ما رآه من غرفته وحمامه وصحن البيت الذي يؤدي إلى الشارع. أحس سعيد بالهم ينتابه وهو يتعرف على حاله أول مرة من خلال عينيه, ولكن سرعان ما داعبت أشعة الشمس أجفانه فرفع بصره إلى السماء ليرى الشمس مشرقة تكتنفها السحب البيضاء, فخر على ركبتيه من جلال المنظر وهيبته وتدلت شفتاه في ذهول وبقي يتأمل الشمس إلى أن خرجت من وراء السحب مزهوة منتشية وسطعت أشعتها على وجهه فلم يقو على النظر إليها وأغلق عينيه فتسلل نورها من وراء جفنيه ليراه مصطبغاً باللون الأحمر الخفيف, وبقي مستسلماً إلى أشعتها الدافئة التي استشعر حنانها لأول مرة في حياته إلى أن شعر بالحر, فقام وأخذ مكاناً بجانب الحائط ثم بقي يتأمل السماء والعصافير والشجر المحيط بالمنزل وحتى النمل والعناكب وهبوب الريح على التراب وحملها إلى ما وراء السور وأصوات الأطفال الذين يلعبون الكرة خارج بيته. وبينما هو كذلك ألقى الأطفال بالكرة إلى صحن داره ثم ما لبث أن تسلق أحدهم إلى داخل الدار بدون أن يصدر صوتاً, وعندما وقعت عيناه على عين سعيد سارع بالبحث عن الكرة ثم عاد فتسلق السور بصمت ورمى الكرة لأصدقائه وقال في قلق:

- لقد شعرت وكأن الشيخ قد رآني!

ضحك أصدقاؤه عليه ثم تابعوا اللعب, وضحك سعيد بدوره وتمتم في سعادة:

- الحمد لله الذي أراني الحياة.

 [3]

مضى الوقت بسرعة وسعيد غارق في تأملاته حتى جاء من يدق عليه باب البيت، فتح الباب وبقي خلفه, فمد الرجل رأسه إلى الداخل ليرى من وراءه, فدفعه سعيد بالباب. تعجب الرجل وقال في صلف بعد أن تنحنح:

- يا.. يا شيخ سعيد، ءأنت مريض؟

تذكر سعيد أنه لم يخرج لأذان الفجر والظهر، فهو يقوم مقام المؤذن والإمام في مسجد القرية عندما يغيب الإمام الراتب, فرد بجفاء:

- أنا لست على ما يرام، تحدث مع محمد ودعه يؤذن بدلاً مني.

- سلامات يا شيخ سعيد، تقوم بالسلامة.

أغلق سعيد الباب من وراءه, ثم جال ببصره على بيته الذي يشبه إلى حد كبير وصف بيوت الفقراء الذين سمع عنهم في حلق المسجد، وأصابه العجب أن خولة لم تشتك له يوماً حالهم ولم تذكر له شيئا عن منظره القبيح, فجلس يتذكر مقالة الرجل في رؤيته وقال:

- لو لم يكن الله يريد أن يريني سوى نور الشمس وجمالها وروعة الخلق ودقته والحياة وزهرتها, لكفاني.. اللهم لك الحمد.

أحس سعيد بقدوم خولة من سوق القرية الذي تبيع فيه سلال الخوص التي تصنعها كل ليلة في بيتها، فتحرك بسرعة ودخل إلى غرفته وبقي ينظر إلى الباب من وراء شباك غرفته المطل على صحن المنزل وهو يتصبب عرقاً وخوفاً, فهاهي الحقيقة ستظهر أمامه كالشمس التي سطعت على بيته طوال اليوم. دخلت خولة إلى البيت ورفعت حجابها وهي تمسح حبات العرق من جبهتها الواسعة ثم نزعت عن رأسها الجلباب فانتفض شعر غجري من تحته وأزاحت العباءة عن جسدها المنهك الذي إلتصقت ثيابها به من شدة العرق, لم يصدق سعيد ما رءاه فقد كانت خولة رائعة الجمال ولم يكن يظن أبدا أنها ستكون بهذه الجاذبية والروعة, فلونها خمري وقامتها مديدة وشعرها أسود منتفض مجعد وجميل ولها عينان رائعتان, هي أحلى منه بعشرات المرات على الأقل, بل إنها أكثر إغراءً من كل ما سمعه عن النساء.

دخلت خولة إلى الحجرة وبينما هي تعلق عباءتها فاجئها سعيد وهو متوجه نحوها بعينين مبصرتين، صرخت خولة من شدة الفرحة وجرت نحوه وخبئت عيناها الباكيتان في صدره. عندها عرف سعيد ما كان يريد الله له أن يرى، خولة التي هي أجمل ما رأت عيناه.