عودة من الغياب

عودة من الغياب

نسب أديب حسين

تفتح الباب وتدخل ببطئ.. كم هي متعبة بعد يوم من العمل الشاق.. الأنوار مطفئة، لكنها رأت سيارتها هنا، لا بدّ أنها في غرفتها. تستدير لتغلق الباب خلفها، يأتيها صوت ضحك مرتفع.. تتجمد للحظة تُرى ماذا أصابها..؟

تسارع نحو الغرفة.. تفتح الباب بسرعة لتطلق صرخة بفزع.. ها هي ابنتها مرة أخرى وسط بقعة من الدماء..

تركضُ نحوها، فتستوقفها الأخرى مشيرة الى النافذة:" لقد هرب من هناك..".

*        *        *

تخرج من الكلية بخطوات وئيدة.. حدس بداخلها يدفعها أن تذهب الى المنزل.. من يدري ماذا يمكن أن يحصل إن تغيبت عنه أكثر؟ ثم انها لم تعد تتمكن من التركيز في المحاضرة، خاصة أن صديقتيها الوحيدتين في الصف تبدوان غير مهتمتين بها، لم يعد قلقُها يعنيهما.. حتى أنهما بالكاد تسألان كيف الحال؟

تفتح باب السيارة لتدخل، لكنها تتوقف للحظة، تنظر حولها.. لا أحد يراقبها الآن. القلق لا يفارقها.. تدخل ببطء.. تنصت.. وتنظر في المرآة الى المقعد الخلفي.. فلا ترى أحدًا.. تدير المفتاح وتشغل المحرك وتنطلق.. تُرى هل تمكن أحد من الدخول الى البيت..؟.

يعود تركيزها الى المقعد الخلفي إنها تسمعه يتنفس.. بل وتشم رائحته.. تصل الى شارة ضوئية حمراء، تتوقف.. ما زالت تشعر بوجوده.. لا تجرؤ على الالتفات الى الخلف. تُرى الى متى سيستمر بملاحقتها..؟ لماذا لا يريد أن يرحل عنها..؟ تتحول الشارة الى اللون الأخضر، تدوس بسرعة على البنزين متجهة الى المنزل.

تركن السيارة بسرعة، تقفز خارجة منها ولا تحاول النظر الى المقعد الخلفي.

تسرع بالصعود الى البيت.. تفتح الباب وتوصده، تشعل الأنوار، وتبدأ بالمرور على الغرف، غرفة تلو أخرى.

لا أحد هناك تشعر ببعض الراحة.. تدخل الى غرفتها.. تستلقي على السرير.. فجأة تسمع صوت تنفس، تنهض فزعة.. تصرخ:" أين أنت؟"

تستجمع أنفاسها لتستطرد:"لماذا تبعتني الى هنا؟ ماذا تريد مني؟"

لكنه  لا يظهر.. تقول:"حسنًا أنا سأريك.."

تنهض عن السرير، تسارع الى المطبخ تأخذ سكينًا وتعود الى الغرفة..

ـ أين أنت؟ أين تختبئ؟ أعلم أنك هنا؟ لقد شعرت بذلك ولذا عدت الى البيت..

تمرّ دقيقة.. تسمع التنفس، ولا يظهر تصرخ: ـ أنا سأريك

تخلع سروالها.. السكين ما تزال في يدها.. تنظر حولها، لم يظهر بعد لكنه هنا.. هي متأكدة من هذا..

تمرّ بالسكين على عضلة فخذها ليمتد جرح طولي يتجاوز العشرة سنتيمرات والدم يبدأ بالتدفق.. تنظر الى دمها بذهول.. تحاول أن تبحث عن صوت أنفاسه، فلا تسمعه.. تنفجر ضاحكة.. ـ " لقد ذهب.. لقد ذهب.. لا بدّ أنه غافلني وقفز من النافذة".

*        *        *

تنظر اليها في اكتسائها ثوبًا أبيض.. وتشرد بعيدًا، تسأل نفسها:" لماذا علينا أن نعاني منه حتى اليوم..؟" تسمع صوتًا بقربها فتدير نظرها، إنه الطبيب.. يبادر بالسؤال:ـ أهي ابنتكِ ؟

ـ أجل

تشعر أنها في عالم بعيدٍ عمن يحيطها، تحدق بها، وبها فقط، ها هم بأرديتهم البيضاء يقفون قريبًا منها يؤكدون أن ابنتها هي من أذت نفسها.. وإن هذا النوع من الأذى يمنحها شيء من الفرح الداخلي.

 يطل أحدهم من الخلف ويقول: ـ حالتها هذه المرّة أصعب من المرّة السابقة.. لم تعد الأدوية السابقة تكفي سنضيف نصف مليغرام كسناكس وخمسة مليغرامات زيبركسا للعلاج وقت الحاجة.

يقول آخر:ـ الوضع النفسي يزداد سوء.. تتخيل أنّ أحدًا معها في سيارتها أثناء القيادة، لقد أخبرتني بهذا في الفحص السابق.. وأعتقد أنه والدها.. لكنها لا تعترف، هناك أمر ترفض أن تقوله بهذا الشأن.

تهز الأم رأسها ساخرة وتتذكره بأي حال مزرٍ كان يعود كل ليلة بعد أن أدمن الكحول.. كم عانت هذه الفتاة من وجوده، وكيف طردته هي آخر مرّة.. وطالبته بالطلاق.. نظر اليها وهو يترنح ورفع اصبعه يلوحُ به "ـ راح أرجعلكم.."

وها هو يعود ويعود..