حديث الغابة
يحيى بشير حاج يحيى
دخل حامد وعباد في أحد الأيام إلى الغابة يبحثان عن نوع من أنواع النبات فانشغلا ولم ينتبها إلى مضي الوقت. ولما أرادا أن يعودا، لم يتعرفا على الطريق التي سلكاها عند الدخول...
قال حامد وقد يئس من معرفة الطريق: لا بد أن نبيت هذه الليلة في الغابة، وليس هناك مكان آمن ننام فيه! فماذا نصنع؟؟
قال عابد: أرى أن نبحث عن شجرة ضخمة عالية نصعد إليها ونبيت بين أغصانها حتى الصباح...
ومضى الصديقان في بحثهما حتى وجدا شجرة مناسبة، فتسلق حامد، وتبعه عابد واستقرا على غصنين ثخينين!.
ولم يمض وقت طويل حتى بزغ القمر، فأضاء جنبات الغابة، وبينما كانا يتحدثان، سمعا أصواتاً وهمهمة قريبة.
قال عابد: ما هذا؟ إنني أسمع أصواتا، ولنني لا أرى شيئاً! فهل ترى شيئاً؟
قال حامد: نعم، فإنني أطل من مكاني على ما يشبه الساحة الواسعة، وأرى عدداً من الوحوش تمشي خلف وحش أكبر منها. اقترب من مكاني لترى ما أرى...
اقترب عابد من كان حامد، ونظر إلى أسفل الشجرة، فرأى أسداً ضخماً، وعدداً من الأسود أصغر منه بقليل، تمشي خلفه وعن جانبيه، ثم استقرت جميعاً في مكان مرتفع، والأسد الكبير في الوسط، وعن جانبيه بقية الأسود.
قال عابد: عجباً!! ماذا ستصنع؟ إنني أراها بوضوح.
قال حامد: كأنها قد اجتمعت لأمر مهم؟!..
ولم يكد حامد ينهي كلامه حتى علت الأصوات، وامتلأت الساحة بعدد كبير من مختلف الوحوش، ووقفت في مكان مواجه لمكان الأسود...
قال عابد: لعل هناك معركة ستدور بعد قليل، يا لها من ليلة مسلية؟!
قال حامد: لقد أخطأت في التقدير، فإن الوحوش لا تستطيع مجابهة الأسود..
قال عابد: ولماذا إذا اتخذت مكاناً مواجهاً لها؟!.
قال حامد: لا أدري بالضبط، إلا أنني أقدر أن هناك أمراً مهماً، وليس هذا اللقاء من أجل القتال....
وبينما كان حامد مستمراً في كلامه نهض الأسد الكبير وزأر بصوت عال فلم يبق أسد من الأسود إلا نهض، وصاح خلفه
قال عابد: ما سبب هذا الزئير؟.
قال حامد: لعل الأسود تستقبل الوحوش وترحب بها...
وبالفعل فإن الوحوش الأخرى وقفت وصاحت بصوت واحد ولكنه مختلف! ثم وقف الأسد الكبير، والجميع في صمت، وقال:
"سمعنا أن هناك نقمة علينا، وانزعاجاً منا؟! وقد أبلغنا من نثق به ذلك"..
قام أحد الثعالب وقال: نعم، إن ما بلغكم صحيح...
قال الأسد: وهل لي أن أعرف السبب؟.
قال الثعلب: لأنكم تملكون الغابة من دوننا، وتستعملون قوتكم في السيطرة عليها... ولولا هذه القوة ما بلغتم السيادة..
فالتفت الأسد إلى آخر كان على يمينه، وقال: أجبه، يا ضرغام فوقف الأسد الأصغر، وقال: إن ما تقوله غير صحيح، فالقوة ليست وحدها كافية لأن تجعلنا ملوك الغابة.
قال الثعلب، وقد أحس بالحرج: وهل لكم غير هذه الصفة التي تتفوقون بها علينا؟!
قال الأسد: عجباً أيها الثعلب! أأنت جاد فيما تقول؟.
"تغير وجه الثعلب، وأكد للجميع أنه غير مازح، وأن سؤاله ليس يقصه به المكر"..
قال الأسد: ربما تكون صادقاً على غير عادتك، ومع ذلك فسأعد سؤالك سؤال استفهام!.
"ثم التفت إلى الوحوش وقال: إنه لشرف لي أن يكلفني ملك الغابة بالرد والتوضيح، صحيح أننا أقوياء، وأننا أقوى من في الغابة، ولكن ليس هذا الوصف هو الذي جعلنا ملوكاً لها"...
استغربت الوحوش من كلام الأسد، وبدأت تنظر إلى بعضها، وهي غير مقتنعة بكلامه...
قال الأسد: سأثبت ذلك... فمن شرفنا مثلاً أن لنا أسماء كثيرة، وليس لغيرنا مثل هذا، فأحدنا يقال له: حيدرة والضرغام والضيغم والليث والضغنفر والقسورة وأسامة والهرماس... وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى.
"نظر عابد إلى حامد وقال: هل هذا صحيح؟.
قال حامد: نعم، وهو لم يبالغ في ذلك.
وتابع الأسد قائلاً: "أرجو ألا يظن أحد أن هذا غرور وادعاء"... فنحن مع الأسماء لنا كنى نعرف بها، ومن هذه الكنى: أبو الأبطال، وأبو حفص، وأبو شبل، وأبو الزعفران...
كان الثعلب يسمع وقد نكس رأسه خجلاً، ولكن الأسد لم يتوقف عن الكلام فقال: إن الإنسان سيد المخلوقات يرفض أن يقال له حيوان، ولكنه يرضى عندما يشبه بنا، فيقولون: فلان أسد، ولا يذكرون الصفة التي أرادوا وصفه بها، لأنها لشهرتها أصبحت معروفة وهي الشجاعة.. امتعض النمر وقال: ثم ماذا؟.
قال الأسد: ولنا صبر على الجوع والعطش ما ليس لغيرنا كما أن أحد نالا يأكل من فريسة غيره، وإذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها.. ولا يشرب أحدنا من وعاء ولغ فيه كلب...
فقام الذئب وقال: ولكننا سمعنا أن الأسود تخاف من النار، وتتحير عند رؤيتها!
قال الأسد: قد يكون هذا صحيحاً، ولكن هل هناك أحد لا يخاف النار.. إننا إذا تشابهنا مع غيرنا في هذه الصفة، فقد تفوقنا عليه بكثير من الصفات..
وهنا وقف الذئب وقال: سمعت وأنا في الصحراء أنكم تخافون من بعض الناس! فكيف يكون هذا، وأنتم تخيفون الغابة؟!
صمت الأسد الأصغر ونظر إلى ملك الغابة، فأمره بالجلوس وقام هو بنفسه ليجيب فقال: إن الذي يخاف من الله، ولا يرجو سواه نخاف منه فلا نسلط عليه، وأما غيره فلنا معه حكايات مشهورة، ولا أريد أن أطيل عليكم، خشية أن تتهمونا بالغرور..
ساد الصمت المكان لفترة طويلة، ثم همس الذئب في أذن الثعلب قائلاً:
تكلم بما يكون مناسباً، ولا تقل إلا خيراً. فمن الأفضل أن نكون له طائعين عن قناعة ورضى، لا عن قهر وكراهية..
فنهض الثعلب، وتظاهر بالرضا والسرور. وقال: دام عزكم، يا سيد الوحوش، ولا زلتم منصورين... إنه ليسرني أن أقول باسمي وباسم الحاضرين: إننا اقتنعنا كل القناعة أن فيكم صفات ليست في سواكم، وأن القوة إحدى هذه الصفات، فأنتم سادة الغابة بما فيكم من مواهب وفضائل!..
ونرجو أن تسمحوا لنا بالعودة من حيث أتينا، فإن الليل قد مضى أكثره، وفينا من تعود أن يبحث عن رزقه باكراً..
فأذن الأسد للوحوش بالانصراف، ومضى إلى عرينه والأسود تحيط به من كل جانب...
قال عابد لحامد، وقد خلا المكان من الوحوش: لم يبق إلا قليل، ويطلع الفجر.
فما رأيك أن تحدثني عمّا تعرف عن الأسود؟.
قال حامد: قرأت في بعض الكتب أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعى (سفينة) كان قد ضيع الطريق في أرض الروم، فوقع في الأسر، ولكنه هرب وانطلق يبحث عن جيش المسلمين فصادفه أسد، فقال له سفينة: أنا سفينة مولى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد أضعت الطريق، فأقبل الأسد إليه، ومشى إلى جانبه يدله على الطريق حتى أوصله إلى الجيش..
قال عابد: وماذا أيضاً عن الأسود؟.
قال حامد: وقرأت أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة ما لقي من أذى أبي لهب وأبنائه، دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك...
فلما كان عتبة في طريقه إلى بلاد الشام نزل في أرض ليبيت فيها مع جماعة من المسافرين، فوثب عليه أسد وافترسه..
* * *
كانت الشمس قد بدت في قرص ذهبي جميل، وبدأت أشعتها تضيء كل مكان.
قال حامد: هيا بنا فقد وضح الطريق، فنزلا من الشجرة، وتعرفا على الطريق...
قال عابد: وهما يخرجان من الغابة! ما أجمل تلك الليلة، فأنا لم أصادف مثلها من قبل!!!
قال حامد: حقاً إنها جميلة على الرغم من خطورتها، وقد تعلمنا فيها الشيء الكثير.