قصة وطن

البراء كحيل

[email protected]

هذا ما تخيلت أنّ يكتبه مؤرخٌ بعد قرنٍ أو قرنين من الزمن في سجلات التاريخ عن أهل الشام ......

يروي الثقات عن الثقات أنّ بلاد الشام كانت مضرب المثل بالخيرات والجمال والبهاء , فالأنهار تجري من تحتها وتلفّها الخُضرةٌ من جميع جوانبها حتى غدت جنّةً غنّاء تغنّى بها الشعراء والأدباء ورسم لها الفنّانون أجمل اللوحات  وعاش أهلها بسعادة وهناء الكلّ فيها يتمتّع بالأمان والإطمئنان فرغم اختلاف طوائفها وتعدد أديانها عاش الجميع بمحبّة وود لا يُظلم فيها أحد ولايُعتدى على أحد فالمسلم أخو النصراني والعلوي أخو الدرزي .

واستمرت تلك البلاد على هذه الحال , حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي استولى فيه رجلٌ طاغيةٌ يدعى حافظ الأسد على كرسي الرئاسة فحكم تلك البلاد بالحديد والنار ما يقارب الثلاثين عاماً ذاق خلالها الشعبُ العذاب والهوان , فهاجر منهم الكثير ومن بقي عاش بفقرٍ وذلٍّ وخوف

ثمّ شاء الله أن يقبض روحه الخبيثة ويُريح العباد والبلاد من شرّه وظلمه .

فعاشت البلاد في صدمة وفوضى لتستيقظ على مؤامرة خبيثة نُصِّب من خلالها ولده بشار خلفاً لوالده لتكون تلك هي السابقة الأولى فيما كان يسمى بالدول الجمهورية.

واستبشر النّاس خيراً فقد كان مثقفاً طبياً للعيون تخرَّج من جامعات متحضرة في احدى الدول الأوروبية التي كانت تنعم بالعلم والمعرفة والحرية في ذلك الزمان .

ووعد الشعب بالإصلاح والحرية والكرامة ومحاربة الفساد والقضاء على المفسدين , فتأمل النّاس خيراً حتى أطلقوا على حكمّه في البداية "ربيع دمشق" وانتظروا تلك الوعود لعلّها تتحقق , ولكن للأسف لم يصدق ذلك المثل القائل : "رُبّ شوكةٍ أنجبت وردة" وتبينّ أنّ الشوكة لم تُنجب إلاّ علقماً مُراً فكان كالزَّقوم على أهل تلك البلاد .

أصبحت الثروة في يد أقاربه وأبناء عمومته وازداد تجبّر العائلة الحاكمة, فغدت البلاد وكأنّها مزرعة لآل الأسد والشعب كأنّهم عبيدٌ لديهم , ومع ذلك صبر الشعب المسكين على المرّ والظلم راجين أو حالمين أن يتغير الحال في يومٍ من الأيام .

وبقيت هذه حالهم حتّى جاء ذلك العام الذي أرّخ اسمه المؤرخون "بعام الربيع العربي" انتفضت فيه الشعوب العربية ضدّ حكّامها الظالمين فأسقطوا طاغية في بلاد تونس وآخر في بلاد مصر وثالثاً في ليبيا ورابعاً في اليمن , ولمّا رأى أهل الشام الأبطال إخوانهم في بلاد العرب يُسقطون الطغاة والظالمين هبّوا يطلبون الحرية والكرامة التي سلبهم إيّاها آل الأسد , ويُحكى أنّ سبب انتفاضة أهل الشام صبيةٌ صغارٌ في مدينة "درعا" كتبوا على جدران مدارسهم عباراتٍ ضدّ حُكم الأسد وأعوانه فاعتقلهم جنود الطاغية وأذاقوهم ألوان العذاب فهبّ أهل "درعا" بشيبهم وشبابهم لأجل أطفالهم . وفي هذه اللحظة بدأت شرارة النور التي انتقلت إلى كلّ بلاد الشام تنادي بالحرية والكرامة وتُطالب بمعاقبة المجرمين .

فما كان من طاغية الشام إلاّ أن قابل أولئك العزّل المساكين بالنّار والرصاص فأردى منهم العشرات في بداية ثورتهم لعلّه يُخيفهم ويعيدهم إلى جحور الرعب التي كانوا يعيشون فيها , لكنّ أولئك الأبطال دفنوا الخوف مع أوّل صيحة " الله أكبر" أطلقتها حناجرهم ,  و أبدوا شجاعة وبسالة نادرةً فقد كانوا يواجهون الرصاص بالصدور العارية حتى قال فيهم المؤرخون : " إنّه لم يوجد كشجاعتهم على وجه الأرض ولم يعرف التاريخ لهم شبيهاً "

"فأهل الشام شهيدٌ يشيّعه شهيد ويغسّله ويكّفنه شهيد ويحمله شهيد ويدفنه شهيد " فقد تحولت جنائزهم إلى حربٍ ضروس بين حملة النعوش وحُماة العروش .

واستمر حالهم هذا ما يزيد على العام تخلّى عنهم القريب والبعيد وتآمرت عليهم دولة الفرس التي كانت تُسمّى في ذلك الوقت "إيران" ودولٌ أخرى جاهرت بمناصرة الظالم وأخرى ناصرته سراً وفي الخفاء . ولمّا رأى القوم ذلك رفعوا شعار " ليس لنا إلاّ الله" , والغريب أنّهم كانوا يطلبون الموت ويجدون فيه الحرية من أسر الذل والهوان لحاكمٍ ظالمٍ طاغية , فقد كان الخروج في مظاهراتٍ ضدّ طاغية الشام يعني أنّك إمّا أسيرٌ مُغيّب في ظلام السجون أو شهيدٌ سوف تسقط في تلك المظاهرات .

وأذاقهم ذلك الظالم أشدّ ألوان العذاب فقد وصل الأمر به إلى ذبح الأطفال واغتصاب النساء وحرق الكتب ولم يسلم منه حتى الحيوان فقد فاق في طغيانه التتار والمغول حتى استحى إبليس من جرائمه , وكان كلّما زاد في ظلمه زاد ذلك الشعب البطل ببسالته وجهاده ويروي لنا الأجداد أنّ مدينة "حمص" أصابت ذلك الطاغية بالجنون فقد قدّمت آلاف الشهداء وأبدت بسالةً منقطعة النظير وكان حالها كحال بقية المدن الثائرة كلّما ظنّ الطاغية أنّه أخمد نار ثورتها عادت لكي تشتعل من جديد بحماسةٍ أكبر وعزيمةٍ أقوى .

إنّهم أهل الشام الشجعان مهما تكلّم التاريخ عن ثورتهم وقال عن شجاعتهم فهو مقصّر في حقّهم فقد واجهوا المدفع وهم عُزّل وتخلّى عنهم العالم بأجمعه فلم يُنقص ذلك من عزيمتهم بل زادهم إيماناً بربّهم وهم يتلون قوله تعالى :" الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " , سطّروا بدمائهم الزكية تاريخ بلادهم المجيد فكتبوه بأحرف من نور مدادها الدماء وورقها جلد الشهداء .

وهنا أقف عاجزاً عن كتابة خاتمةٍ لقصة بلاد الشام منتظراً تلك النهاية السعيدة التي سيكتبها شجعان الشام.