قطـار المدينة

قطـار المدينة

محمد الفشتالي

[email protected]

صمت مطبق، أنفاس مشدودة، أياد جامدة، لا صوت، لا حركة، تهيب، ترقب كألف عام من الانتظار. بطيئا بدأ الامتلاء، وشرع الاحتواء، وذرات الضوء تتكاثف زخات تتبعثر، تتجاور لتسطع كاشفة. علا الهتاف، وأخذ يتناهى إلى أن أقبر تماما عند ظهور عربات متراصة وراء قاطرة هامدة. عيون متناظرة بالداخل، وعضلات نشيطة تبني، تنحت، تعمل بدون كلل. تشكيلات صور وحركات تتوالى لتهدأ، ثم تجف وتجمد. صفير مفاجئ كانفجار انطلق دفعة واحدة. صفير رياح تلته طلقات. ثلاث طلقات زرعت القشعريرة في الأبدان حتى جلدة الرأس، ثم عم الهدوء، وساد الانتظار، وقد تجدد هذا اللاصوت اللاحركة يخنق الأنفاس تماما.

 أي صنف من التنفس تريد ؟ ! تخيل أي نوع تستطيع!… قال غباشي، وقد انخطف من بين الحاضرين. بالقرب منه تنفس قناع الاسترخاء الصعداء، وترامى على الرصيف قرب جماعات مستلقية هناك. واستطرد…هيا بنا. حان الوقت. كل شيء جاهز. ولما لم يجبه أحد من المستلقين حوله؛ وضع رأسه بينهم وتهاوى، بينما كانت وجوه تنزف عرقا بسبب الجهد المبذول في الدفع، وما تزحزحت العربات. رفع اللواء العتيد، وتقدم طاغيته يقود كتائب مشاة وفرسان وحراس. توقف بجنده عند قناع التدنيس، وأمره بالتخفي وسط الكتائب، ثم قرأ بيانا حربيا طويلا ختمه مكررا؛ ليذكر عصاباته بألا تكون نظرتهم للأمور كنظرة التيس، فهي دائما أقصر من لحيته. لأجل ذلك أقامت كتيبة الفرسان كرنفالا بهيجا؛ خلاله فلح أعضاؤها المهرة في استنساخ هذا القناع بالعشرات، بعد أن كانوا قد فشلوا ما من مرة. امتطى الحفل التنكري العربات القابعة بلا حراك . وأحدث المحتفلون ضوضاء وهم لا يبارحون مكانهم . مما اعتبره اللواء الطاغية اندحارا لهذه الكتيبة؛ التي كان يعول عليها في كل التشكيلات الحالية والآتية، وقرر أن يساقوا إلى حتفهم قبل أن تلمع أضواء الليل، وتشحذ المجادلات بين رجال الطليعة الذين كانوا كلما أعدوا خطة لإنجاز الانقلاب على كبيرهم، وأوشكوا على إتمامها؛ حتى يصل جدلهم المتصاعد إلى ذروته، فينقسمون، وتنتهي ثورة الزنج المزعومة، ويستولي اللواء وهو من أكبر قناصي الفرص على الذخيرة كلها. أما الكتيبة المتبقية فيلقي بها الجهد الجهيد بلا طائل على الرصيف، وأعضاؤها وهنون يرقبون العربات في يأس كمن سبقوهم.

 أضحت الأمور بهذه المدينة متوقفة على القطار. تساءل الحاضرون : ماذا يمكن أن يحصل لو لم يكن هناك قطار أصلا ؟ ولماذا أصبح ضروريا لهذا الحد مع أن لكل شيء بديلا؟...الأمر بسيط، بل بديهي لدى الجميع، ولا يحتاج إلى اتفاق، أو تعاقد، أو أي نقاش. القطار وحده له سكة لا يحيد عنها، ترسم اتجاهه كالسهم، ولا يزيغ عنها البتة، علاوة على أن جوفه يسع أنواع المخلوقات، وشتى خيرات الأرض وطيبات الحياة. لكن قلة قليلة لم تفهم ما معنى الإصرار على قطار خاص بالمدينة بهذه الدرجة من الغلواء؛ ما دامت قطارات المدن القريبة والبعيدة أيضا تعبرها يوميا، وباتت الحركة من المدينة وإليها يسيرة جدا. هذه الثلة نفسها تيقنت فيما بعد من أن القطارات الأخرى عابرة فقط. واحتل إطلاق قطار المدينة العقول والقلوب، كمسألة حتمية في معركة الجهات.

 لاح قمر غباشي من جديد على شجن موال الصبا. اقترب من الأجساد الحية، ودعاها لتحدي الذوات، فأقاموا أوراشا عديدة، وأشرف هو جادا على تقويم البنيات، بنيات الصوت والحركة والصدى وعضلات الوجه، ومنع الأفواه من استظهار المحفوظ، وحرم جميع أنواع المجادلات بلا طائل، كما أبى أن يتنكر أي أحد كما السابق، وأشار عليهم أن يوجدوا بالدم واللحم. وحقنهم دماء نقية. نظم المداومة للجميع، وعمل ضعف ما قاموا به؛ واهبا نفسه ولو لحد المحرقة. ودعاهم للتصليح والتلحيم، وتولى قيادة العمل. الفرن في محله، والمولد بعيدا عنه، والعوادم في المؤخرة. أنجزوا ما هو مطلوب بافتتان، ولو أنهم كانوا على خلاف بين في قضايا كثيرة هندسية وتقنية وإجرائية ومالية. أثناء ذلك كانت العيون تتتبع الاحترافات، والأنفاس لاهثة أملا في الحل، حل العقدة، عقدة الجميع، لأن الأمر انتقل من اللاصوت واللاحركة، وقريبا يركبون العربات بالتسابق طبعا، كما هو الشأن عند كل محاولة جرت. وأخيرا أعلنت البشرى. القاطرة على أهبة.، هدير المحرك، والدخان تنتهي به العوادم للخارج، فلا خوف ولا أذى. دوت التصفيقات في الأرجاء، ونقل الخبر من الحاضر للغائب. اجتمعت حشود غفيرة هذه المرة. طبعا حصل تدافع وتراكل أيضا عند الولوج. ضاقت العربات، واضطر البعض لأن ينسل بالكاد عائدا للرصيف. تصايح الراكبون ينادون بالانطلاق إلى الأمام، وضج احتجاج المدبرين أكثر من أي وقت مضى.

 لحظة واحدة كانت كافية لعودة اللاصوت اللاحركة من جديد. هذه اللحظة كانت قاسية، ولم يتحملها أحد. ضرب غباشي يدا بأخرى. حمل أشياءه الصغيرة واختفى، وما عاد للظهور. آنذاك كانت الشمس آيلة لغروب جديد، والقطار رابض بلا حراك، وأصحاب الرصيف يحلمون بانطلاقة جديدة دون أن يلجؤوا للإخوان، لأنهم لما يفعلون لا يمنحونهم سوى بركاتهم. لكن مهما كرعوا من حنظل؛ فإن العزيمة شحذت، وغدت أقوى وأشد مضاء. فالعبرة بالنتائج مهما طال أمدها . لذلك انتظموا صفوفا في كل جهة تعطشا للسيولة الموعودة، وانشطروا فرقا وشيعا تعترك، تحترب بكل شيء على كل شيء. فلا ألوان ولا ألحان ولا أناشيد، ولا أضواء باهرة، أو دوارة، أو خاطفة عادت تلتمع في سمائهم بعد أن تعروا بالكامل، وهم يعرفون أنه لن يفك أوحالهم حتى صابون المدينة كله.

 وفيما أخذ الصدأ ينخر العربات المتهالكة، ولا من ينقـذ أو يساعد، كما تنبأ به غباشي قبل أن يخـتــفي ــ مشيرا إلى أن هرقل يريد أن يتحرك الناس قبل أن يساعدهم ــ صارت بعض قطارات الجهات الأخرى دؤوبة سريعة ؛ تخترق رحاب الجهة ذات الأنفاق، وتعبر كالبرق محطتها اليتيمة، حيث لم تدق الساعة الحجرية بعد، ولم يسدل ستار، ولم يمض قطار.