عذراً عروبتي

أفنان شمس الدين ريحاوي

عذراً عروبتي

أفنان شمس الدين ريحاوي

 الأصوات المرعبة تهتز على ربابة الليل، والصراخ المجلجل يخترق جدران البيت، القصص المكتومة في منزله تتسلل خلسة إلى منزلي إثر سياط العذاب، وكلما حاولت قراءتها تطايرت حروفها بأجنحة خيبة الأمل عائدة إلى منزله، الكذب الناطق باسم الحرية يخبئ ألوان شعر أطفاله الأربعة عشر، الأسرار المعلقة على باب داره تجذب أنظار العماة دون المبصرين، القهر المكشوف يصدح بين الفينة والأخرى من جميع نوافذ داره، الألم المذبوح يُرسَم بأقلام أطفاله الأربعة عشر مكونا لوحة فنية تزين باب منزله، هواء ملوث بقطرات نتنة قادم من بيته يخنقني، رائحة التعفن المنبعثة من منزله تمرضني، ذاك هو بيت جاري أبو حافظ ، جاري منذ عشر سنوات .

 الأجراس العنيفة في منزل جاري والتي بدأت ترنّ منذ بداية الربيع الماضي تقلقني، وصياح السكاكين المخيفة على تلك الأجراس يرعبني، وكلما حاولت سؤال جاري عن تلك الأصوات أجابني بهدوئه العجيب : لا شيء... لا شيء... إنها فقط ألعاب أطفالي، تلك الأجراس هي المتنفس الوحيد لأطفاله، فهو يجسّد خوفه على أطفاله بحرمانهم كل شيء... حتى الهواء حرام عليهم فهو يؤجج فيهم حب الحرية والتحليق إلى سماء المجد، حب الحقيقة يدفعني لاستكشاف أمره، فهو جاري ومن حقه عليّ السؤال عن أحواله وتسديد خطاه وتقديم النصيحة والمساعدة له، بيد أن أطفاله مثل أطفالي وما يبكيهم يبكي أطفالي، وكلما بادرت لأقدم يدا تتشبث بها آمال أطفاله الصغار ردّها إليّ منكسرة تكسّرت معها أحلام أطفاله المساكين قائلا : لا نعاني أية مشكلة لتقدم لي يد المساعدة، لكنّي أرى الدموع في عيون أطفاله... أرى الألم في عروق دمائهم... أرى الذل على رؤوسهم... أسمع الأصوات والصراخ والنحيب... أشتم روائح المرض والجوع والعطش والجثث... ألمس الغضب والقهر والقسوة المكبوتين... فكيف يزعم جاري هدوء داره وعلى أرضه يشتعل البركان ليفجّر حناجر انتزعت من أربعين سنة...؟؟ وما قصة الأجراس الرنانة كل صباح ومساء...؟؟ وهل خوفه من تفشي أسراره البشعة يرغمه تكذيب كل نبأ يدار حول الأصوات الصادحة من بيته...؟؟ أم أنّ عشقه لسلطة البيت يأذن له بتدمير الأجراس وقتل الأحلام وتحطيم صور الحياة إلى قطع متناثرة على مقبرة سوداء...؟؟

 تلك الأسئلة تؤرقني، وأجوبتي المخمّنة تشحنني بكهرباء النخوة والشهامة، وإنسانيتي تجبرني على تحري الحقيقة والأخذ بزمام الأمور، ورجولتي تمنعني مشاهدة مسلسل بشع تدور أحداثه في منزل جاري دون معاقبة ممثليه، والعروبة الممجدة في قصائد شعراء العرب ترغمني استعمال سيوف المروءة المصنوعة منذ القدم، لابدّ من تدخّل سريع ينقذ ما تبقى من الآمال الخضراء، ولابدّ من محكمة عادلة تطلق سراح الأحلام وتسجن كل جزار، لذا عزمت على زيارة جاري واستطلاع أمره وتقديم يد العون لأطفاله .

 استقبلني الجار الهادئ جدا رغم العواصف الصاعقة الساكنة في بيته بعد موعد مسبق حددته معه، تزيّنت السكينة على الجدران لتكتم الأفواه المرسومة عليها، وتلوّنت الأرضية بألوان الهدوء لتمحي اللون الأحمر المفروش عليها، ارتسم الأمن الكاذب على الأثاث المحطم ليدوس على الأيادي الممتدة الطالبة للنجدة، ساد الصمت رغم الصراخ القاتل... هطل الكذب رغم أشجار الصدق الراسخة... حطّ الهدوء على نوافذ الدار رغم تكسّرها إثر هواء العاصفة... تألقت كل الخدع الباطلة بسحرها الدجّال وما زال قلبي مصرّ على الفوز بإجابة صادقة... ولم يفلح لساني بمحاصرة إجابات جاري المضحكة لاستخفافه عقلي الرشيد والمبكية على مستقبل الأطفال التعيس، وعندما استفزّني ببرودة أعصابه وهدوء ملامحه وتكراره لعبارات جوفاء تحمل كل معاني الجنون والاستهبال... لا يوجد شيء... لا يوجد شيء... بيتنا بخير... قمت غاضبا عازما على التدخّل رغما عن أنفه، متحديا كذبه بنيازك الصدق التي لابدّ أن تظهر، وعند خروجي استوقفتني الدموع الشفافة في عيون صغاره... والصور المؤلمة الغارقة في دموعهم... والنداء المسجون وراء قضبان ظلم أبيهم... والأيادي الصغيرة المتوسلة إلى طيف نور ينبعث من أحد الجيران... فقررت الوقوف في وجه ذاك الجار لاجئا إلى طلب المساعدة من باقي الجيران .

 اجتمعت مع باقي الجيران بخصوص أمر جارنا أبي حافظ عدة مرات دون جني أي ثمرة من هذه الاجتماعات، ففي كل مرة يدور نفس النقاش وتحدث نفس الأحداث ولا نخرج من الاجتماع إلا بتحديد موعد لاجتماع آخر في وقت لاحق، غير تأجيل موعد الاجتماع الذي قد يطرأ إثر مداخلات فنية، ودائما نتوصل إلى إعطاء مهل غير منتهية لجارنا الهادئ عله يرتدع عن أفعاله، وأخيرا ينتهي بنا المطاف إلى اقتراح إرسال مبادرة استكشافية تتحرى الحقائق وتتقصى الأخبار بعد كل هذه الأصوات المسموعة من بيته على بعد ملايين الكيلومترات .

 نهاية مؤلمة تستغل الوقت لقتل ما تبقى من الأرواح، انعدم الإحساس في قلوب الجيران، ودفنت كل معاني الإنسانية في تراب الزمان، ولم يبقى من حواسهم إلا عيونهم المراقبة عن بعد الحلقات اليومية للمسلسل الظالم في منزل جاري، احترقت كل الآمال المتشبثة بهم فقد أطفأوا آخر شمعة للنجاة، هناك احتمال لمبادرة عالمية استكشافية تتحرى الحقائق بعد كل هذه الحقائق المنشورة على الجدران والنوافذ، وقد لا تأتي هذه المبادرة إثر رفض قاطع من الجيران في الحارات الأخرى، لتظل قصتنا باكية من فرط ألم الظلم والقهر والاضطهاد، اعذريني أيتها العروبة... فقد احتللت مساحات شاسعة من دفاتر الشعراء وتمجّدت في أغاني المطربين وترعرعت في أحضان العرب منذ آلاف السنين ومع هذا فشلت في سيادة المبادئ والقيم، ولم تكوني في واقع الحياة إلا رمادا هشا في سراب النسيان .

 فعذرا أيتها العروبة... لا داعي لتمجيدك بعد الآن، فأنت الكلمة الميتة في مقابر كل الجيران، ووجودك في قاموسنا عار علينا بعد هروبك منه يوم الامتحان .

للأطفال ربُّ قويُّ يحميهم.................... وللأرض الخضراء ربُّ قادرٌ يحميها .