كنت أول الشهداء في المهجع
د. عبد الله الطنطاوي
[email protected]
نهض المهندس زهير من نومه، فرك عينيه، نظر في ساعته، ثم تمدد في سريره من جديد، ولكنه لم يستطع النوم،.. يبدو أن الحلم كان مزعجاً.
ذهب إلى الحمام واغتسل، وفيما كان يلبس ملابسه، نادى زوجته المستغرقة في نومها:
- خالدة.. يا خالدة.. قومي اسمعي صوت المؤذن ما أروعه.
تقلبت خالدة في سريرها، ولكن زوجها لم يتركها، ناداها:
- هيا يا حبيبتي.. قومي واستحمي حتى نصلي الصبح معاً.
فتحت خالدة عينيها الناعستين، وتساءلت في دلال:
- ماذا قلت؟
- قومي اغتسلي، أريد أن نصلي الصبح.
- نصلي الصبح؟
- نعم.. انتهى الأذان، وصار وقت الصلاة.
جلست خالدة في سريرها، عركت عينيها، ثم سددت النظر إلى زوجها وهي تقول:
- نصلي الصبح؟ متى كنا نصلي حتى توقظني وأنا في أحلى نومي؟
أجابها زهير بحنانه المعهود:
- منذ اليوم لن نترك الصلاة يا عزيزتي.
تمددت في سريرها وسحبت الغطاء الصيفي الشفيف وغطت رأسها:
- صلِّ أنت إذا أردت أن تصلي.
اقترب زهير منها، مسح على رأسها، طبع قبلة على جبينها الذي ظهر بياضه من تحت الغطاء ورجاها أن تقوم إلى الصلاة معه.
استجابت لرغبته كالعادة، فهي لا تعصي له أمراً، وهو لا يرد لها طلباً.. هكذا هما منذ تزوجا وتفاهما، وعشق كل منهما الآخر.
جلسا بعد الصلاة.. كانت تنظر إليه في ريبة وخوف، وكان ينظر إليها في حب وحنان.
سألته عما به فابتسم وقال:
- أنا لم أصلِّ في حياتي إلا مرة في المدرسة، ومرة في البيت، وعندما رآني أبي أصلي استنكر صلاتي، وأمرني ألا أعود إليها.. وإلا..
وعندما سألته عن السبب قال:
- حتى لا يطمع بك زملاؤك من الإخوان فينظموك في صفوفهم.
قلت لأبي: الذي دعاني إلى الصلاة زميلي في الصف: مصعب، فصليت معه.
قال أبي:
- زميلك هذا من الإخوان.
- هل تعرفه؟
قال بنزق:
- أنا لا أعرف هذه الأشكال.
- ولكنك يا أبي لو رأيته لأحببته.. مصعب شاب وسيم، جميل، ومجتهد، وهو الأول في الصف، وهو من أسرة مثقفة.. أبوه أستاذ في الجامعة، وأمه مديرة مدرسة.
استنكر أبي هذا التفصيل الممل – كما قال – وأمرني أمراً قاطعاً أن أبتعد عن مصعب وعن الصلاة، وأن أصاحب من هم من طبقتنا من الأغنياء.
قلت له:
- أهل مصعب من الأغنياء، ولكنهم مثقفون، يسكنون في حي المحافظة، وعندهم قصر جميل وسيارة مرسيدس للأب وسيارة للأم..
قاطعني:
- أمه محجبة؟
- نعم.
- إذن من الإخوان.. ابتعد عنهم..
قالت زوجتي خالدة:
- وكذلك أبي وأمي كانا لا يصليان، وعندما نصحتني معلمة الديانة بالحجاب، وأنني سأكون أجمل بالحجاب وطلبت من أمي أن تشتري لي حجاباً، صرخت أمي صرخة مدوية، وسبت المعلمة، وشكتها للمديرة، ووصل الأمر إلى المخابرات، وهددوا المعلمة بالفصل إذا رأوا تلميذة محجبة في صفها.
- ولكن أمك محجبة الآن.
- هداها الله على يد المعلمة نفسها.
- كيف؟
- اتصلت معلمة الديانة – واسمها ياسمين – بأمي وزارتها في بيتها، واعتذرت لها عن الإزعاج الذي سببته لها، فاستغربت أمي، وامتلأت حباً وتقديراً للمعلمة، فنهضت إليها وقبلتها وقالت لها:
- أنا أسأت إليك، أنت لم تسيئي إلي ولا لبنتي أنت تريدين الخير لبنتي، تريدين المحافظة عليها، ولكنني خفت على بنتي من المخابرات، خفت أن يتهموها بالانتساب إلى الإخوان..
وانخرطت أمي في البكاء.
- وبعدها؟
- استمرت العلاقة بين أمي ومعلمتي، حتى بعد أن صرت في الجامعة، ثم تحجبت أمي بفضل تلك المعلمة، وصارت تصلي ثم أثرت بأبي فصار يصلي ولكنهما حذراني من الصلاة في المدرسة ومنعاني من الحجاب، خوفاً علي من المخابرات، واتهامي بالإخوان.
قلت:
- أنت وأنا سوف نحافظ على الصلاة منذ اليوم.
- إن شاء الله.. لكن.. ما السبب؟
- السبب، يا حبيبتي، أني رأيت في المنام زميلي مصعب.
- أين مصعب؟
- في جنان النعيم إن شاء الله.
- مات؟
- شاهدته الليلة في المنام، وسألته عن أحواله، فأخبرني أنه كان أول شهيد في مهجعه في سجن تدمر، عندما هاجمت سرايا الدفاع سجن تدمر.
سألت خالدة:
- هل كان معتقلاً مع الإخوان؟
- نعم.. وقتلت سرايا الدفاع أكثر من ألف شهيد من خيرة رجال سورية.. كلهم مثقفون.. مهندسون، وأطباء، ومحامون، وأساتذة جامعات ومعلمون ومشايخ وطلاب جامعات، وطلاب إعدادية وثانوية.
مسحت خالدة خطين من الدموع وسألت:
- وماذا قال لك مصعب؟
- نصحني بطاعة الله تعالى، وخاصة الصلاة، وقرأ علي هذه الآية الكريمة: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" صدق الله العظيم.
ورددت خالدة في تأثر:
- صدق الله العظيم.
***
رجع زهير من صلاة الجمعة، وجلس مع زوجته وطفلته بنت السنتين فرحان، يمزح ويحكي لزوجته عن الخطبة.
- كان موضوعها حول الجنة والنار، وكان الخطيب موفقاً في عرض الموضوع، بكى وأبكانا، وحدثنا عن الصحابي الشهيد المنعم مصعب بن عمير رضي الله عنه، وكنت أشرد أثناء الخطبة وأنا أتذكر زميلي مصعب الذي زارني في المنام، وقال إنه وإخوانه في الجنة، وقال لي:
- أريدك أن تكون معي في الجنة يا زهير.
وقد قررت أن أكون صاحبه في الجنة.
في هذه اللحظات سمع زهير أصوات الرصاص مختلطاً بهتافات المتظاهرين، "الشعب يريد إسقاط النظام" فهب واقفاً ورفع طفلته بين يديه وقبَّلها عشراً، واحتضن زوجته خالدة، وقال لها:
- سألحق بمصعب يا خالدة.. اهتمي ببنتنا، ولا تنسيني من دعواتك.