حفلة شواء

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

في قرية جميلة ترفع قامتها فوق جبال شامخة لعلها تشم  نسائم المتوسط الذي يقع على مرمى حجر ترتسم خيوط قصتنا وتتجذر في أعماق لا حد  لها ، و من نبات الزعتر البري المعطر و المريمية تزهر كلماتها و تفوح! ليست وليدة خيال جامح انعتق من عقاله.  يمتشق أبطالها  أغصان الزيتون في زمن الغطرسة و في قلوبهم يتدفق شلال من الإيمان بحتمية الوصول .(أبو العبد) سائق معروف ينقل المسافرين من عدة قرى باتجاه الجسر( معبر الكرامة )أو اللنبي او جسر الملك حسين ، فقد اكتسب عدة أسماء على مدى المأساة- يستمتع القيادة بسيارة فورد  برتقالية اللون حديثة الطراز نوعاً ما.و لأن له خبرة طويلة في المهنة ويعشق السياقة في مختلف الأجواء فقد أصبح لون بشرته يميل إلى اللون الأسمر أو البرونزي . يتسم بأنه حاضر البديهة ، سريع النكتة و له شعبية بين المسافرين سيما و انه على خلاف بقية السائقين لا يضيق ذرعاً بالحمولة الزائدة من أكياس متخمة بالهدايا.

- في الغرب يدفعون الأموال الوفيرة من أجل الحصول على لون بشرة مثلي ! يرد على بعضهم بابتسامة لم تقدر على وأدها شمس أريحا اللاهبة ، و يجهز حمولته ثم يمضي على بركة الله.

نادراً ما تستطيع الإمساك به فهو دائم السعي وراء رزقه و يمتد به العمل حتى ساعة متأخرة من الليل على أمل في التقاط احد الركاب القادمين من الأردن أو دول الخليج . ذات مساء و قبل أن يشرع في تناول طعام العشاء مع أولاده وصل إلى مسامعه  أن الاحتلال قد شرع في مصادرة الأراضي من أجل استكمال الجدار الذي بدأ يتلوى في أراضي الوطن مثل أفعى مجلجلة تحمل في ثناياها السم القاتل  و المصيبة أنه احتلال نهم سبق أن صادر حوالي أربعة آلاف دونم من أراضي القرية في غفلة من الزمن.بدأ يتململ كمن تلقى صفعة و شعر أن الوطن له ضريبة ينبغي لكل مواطن أن يسارع إلى تسديدها ، و أن ساعة العمل بدأت تقترب.النقطة المفصلية انطلقت شرارتها عندما شرعت جرافات الاحتلال في تمهيد الأرض في المناطق المجاورة لمستوطنة أرئيل لبناء الجدار العنصري على أراضي القرية كانت الخطة تقتضي التهام آلاف الدونمات و اقتلاع مئات من أشجار الزيتون المعمرة. استخدم الاحتلال التفجيرات و الحفارات العملاقة لتغيير التضاريس و تسوية الأراضي  لتحتضن مزيداً من المستوطنين القادمين من أصقاع الأرض.كان التشويه كبيراً لدرجة أن بعض أصحاب الأراضي وجدوا صعوبة في التعرف على أراضيهم لا.

في البداية اعتقد بعض أبناء القرية أنه قدر مكتوب عليهم و احتلال لا طاقة لهم على رد شروره وأن اليد لا يمكنها أن تقاوم المخرز و الأسلاك الشائكة ، غير أن الأغلبية تكاتفت جهودها و صبت جام غضبها على المستوطنين الذين يريدون التوسع على حساب أراضيهم .انطلقت مظاهرات عارمة كان في مقدمتها أبو العبد، فقد رآى أن الركاب بإمكانهم الانتظار قليلاً أو تأجيل السفر لأيام معدودات ريثما يتمكن مع أبناء قريته من إجهاض عملية مصادرة الأراضي ووقف بناء الجدار أو الحد من خطره الدائم . أوقف سيارته أمام منزله و صلى الفجر جماعة و استنهض الهمم للقيام بشيء ما. اتجهت أفواج كبيرة من أبناء القرية صوب المنطقة الغربية المهددة بالمصادرة و  التجريف و كان الصدام المحتوم مع الجنود المدججين و الآليات العسكرية و الجرافات ، حصلت بعض الإصابات نتيجة استخدام القنابل المسيلة للدموع و الالتحام المباشر مع قطعان المستوطنين.( أبو العبد) تساوت عنده نكهة الحياة و الموت في سبيل الوطن فألقى حينئذ بنفسه أمام الجرافة التي بدأت في اقتلاع أشجار الزيتون و تشريد الناس.و أمام إصراره انضمت إليه (الحاجة أم صابر) بيديها النحيلتين ووجهها الشاحب .تحركت الجرافة محاولة إخافتهما ، و التحم الجسد النحيل بالتراب المقدس   وبعض الأغصان التي انتزعتها الجرافة من الزيتونة المجاورة ....و أمام صيحات الجماهير و الأعلام التي رفعتها أيدي الشباب و صيحات الله أكبر المدوية تراجعت الجرافة و أطلق السائق العنان لساقيه لتأخذه بعيداً عن المكان ! اندفع أهل البلدة بالمئات يطاردون المعتدين و فلول المستوطنين حتى اختفوا بعيداً بموازاة خط الحدود القديم .و نقلت الأنباء  لاحقاً أن  مخطط الجدار قد جرى عليه تعديلات في أراضي القرية  بحيث نجت معظم الأراضي من مصادرة كانت في حكم المؤكدة.في اليوم التالي كان أبو العبد يحيي حفلة شواء – و هي الأكلة التي يحبها – و قد دعا إليها عدداً من أصحابه في ظلال زيتونة عتيقة نجت للتو من براثن الحاقدين .