غريب وطن
نسرين صالح محمد جرار
ها هو ذا يقع ساجداً على ثرى وطنه الحبيب ، وتختلط عبراته بتراب الأرض فتصبح حناءً تتخضب به وجنتاه ويداه ....، طال سجوده وبكاؤه كما طالت غيبته ........ علا نحيبه كما علا صخب الحياة هناك ... هناك في الأرض التي سرقته من وطنه .
تحلق حوله الأهل والأصحاب مرحبين مهنئين بعودته إلى الوطن ، لم يكترث بمن حوله وبقي على حاله حتى أحس بلمسات حنونة تمسح شعره الذي تعفر بالتراب ، رفع رأسه ليرى ذلك الوجه الحبيب.... يتدفق حباً وحناناً وإشفاقاً ، إنه وجه أمه الذي حرم نفسه منه عشرين عاما .......... يا لها من سنين طويلة تركت أثرها على وجهها فبدت عليه علامات الهرم !! .... وكأن كل عام كان معولا يحفر في وجهها... أين ذهب تورد الخدين ؟؟ وأين حمرة الشفتين ؟؟ كيف غاب بريق العينين !! إنها السنون .... تعاون معها ظلم الأحبة وهجرهم فخطفتا كل نضارة وجمال ، وتركت وراءها وجها شاحبا.
هب من سجوده وبدأ يلثم ذلك الكف الحنون الذي مسح رأسه وهوّن عليه ، وتدحرجت الدموع واختلطت وكأنها قطرات ندى تروي أرضا عطشى ..... لا أدري أهي دموع ندم على ماض ذميم ، أم هي دموع فرح بعودة ولقاء .
عانقه الأحبة والأهل والأصحاب معلنين فرحتهم بعودته الميمونة ، وساروا جميعا نحو بيته في قريته القابعة على سفح الجبل ، المحاطة بأشجار الزيتون واللوز ، تقدم نحو بيته بخطوات متلاحقة وشريط الذكريات في ذهنه يعود إلى الوراء عشرين عاما عندما نعق بوق سيارة السفر يدعوه للقدوم ، فصرخت والدته ترجوه التوقف وعدم الاستجابة لنداء الغربة ، فلم يستوقفه نداء أمه ولا عبرات أخواته ، وحمل حقائبه ومضى مسرعا ولم يلق حتى نظرة وداع على بيته الذي تربى في أحضانه !! ... وركب سيارة السفر التي بدأت تنهب الأرض تاركة وراءها قريته الوادعة .
يا لها من لحظات عابسة ، تلك اللحظات التي لم يسمع فيها أشجار الزيتون تناديه كي يقطف ثمارها ، يا لقسوته عندما ترك أغصان اللوز تعانق شجر المشمش وتدعوه لينعم بظلها ، كيف لم يرَ الطيور المهاجرة وهي تعود ؟ !! كيف حرم نفسه أريج الجوري والنسرين !!
كيف استبدل بالنسيم العليل الذي يداعب أنفه رائحة الدخان التي تزكم الأنوف والصدور في بلاد الغربة ؟؟
كيف استعاظ عن رفقة الأهل والأصحاب بوجوه كالحة لا معاني فيها ولا تعابير ولا عواطف،فهي لا تعرف إلا العمل ، لماذا بدل حلو تغريد البلابل بصخب السيارات وأصوات المصانع ؟!
هل بإمكانه الآن بعد أن قضى زهرة شبابه في الغربة أن يخدم وطنه وأهله ؟ هل يستطيع أن يعيد الزمن إلى الوراء ، أترضى منه أمه بعد أن تركها وأخواته وحيدات دون راع ؟!
قد يكون بإمكانه أن يفعل شيئاً للتكفير عن غربته ، نعم سوف يخدم بلده وأهله بثروته التي أمضى عمره في جمعها ، سوف يطلب من أمه الصفح ... وقلب الأم لا يستطيع إلا الرحمة ، سوف يخفف من آلام شعبه ..... نعم سيعود لكرمه وزيتونه ، وسيمضي بقية عمره بين الأحبة على ثرى الوطن وفي أفياء البرتقال والليمون .