قراءة في فنجان قهوتي
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
شكراً لك ياصديقي مختار المحلة على هذا الكوب الجميل , والذي جعلني أشرب القهوة الصباحية فيه عوضاً عن كأس من الزجاج الشفاف كانت آثار انفاسي لاتبدو واضحة على حوافه الداخلية
وضعت الكوب بعد أن جفت القهوة في حقيبتي , وخرجت لملاقاة بعض الأصدقاء في المقهى.
المهم بعد أن تجمعنا حول المنضدة , وطلبنا الشاي , ودار الحديث بيننا عن قضايا الساعة الساخنة وأهمها :أحداث الثورة السورية ثورة الحرية .
وكل شخص أدلى برأيه وتصوراته , وأبدى تأسفه وحسرته على الدماء الزكية التي تراق ظلماً وغدراً من العصابات الاجرامية بزعامة بثار الأسد .
وخلال طرح الآراء والاجابات التي تمت عن التساؤلات المقدمة بيننا ,سألني أحدهم فقال :
وهل ترى في الأفق القريب يادكتور مايشير إلى نجاح الثورة السورية قريباً ؟
قلت له قبل الاجابة انظر ياأبا عاصي , مالذي تحويه حقيبتي الصغيرة هذه !
ومن ثم فتحت الحقيبة وأخرجت منها كوب القهوة ووضعته على منتصف الطاولة , وقلت لهم جوابي موجود داخل هذا الكوب , فهو يستحق الاحترام والتقدير .
فمنهم من ضحك ,ومنهم من عبر عن ذلك بإطالة شفته السفلى ومطها للأسفل , ومنهم من قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم , ومن ثم أستغفر الله , وقال ماهذا الكفر يادكتور ؟
فقلت له اسمع ياشيخ خالد , معمر القذافي حكم ليبيا أكثر من أربعين سنة وكان يستعين بالسحرة والبصارين وقارئي الفنجان , وقد ثبت أن كل الحكام العرب والذين حكمونا لسنين طويلة , يؤمنون بذلك , وكانوا يستعينون بالبصارين , لقمع شعوبهم
حتى عملاق الشعر العربي كتب قصيدة رائعة , وتغنى بها الناس , وسماها قارئة الفنجان , ومن بعض كلماتها
ستفتش عنها ياولدي في كل مكان
وستعرف بعد رحيل العمر
أنك كنت تطارد خيط دخان ...خيط دخان
الشيخ خالد وما دخل قصيدة شعرية , بفنجانك أنت ؟
سأقول لك : قباني كان يتكلم بقصيدته تلك عن القدس , وكيف ضاعت , وأضيعت من قبل الزعماء العرب , ولكن فنجاني يتحدث عودة بلاد الشام كلها
فقد سقط زين العابدين في تونس وقال مبارك مصر تختلف , وسقط بعدها مبارك وقال القذافي ليبيا تختلف , وسقط بعدها القذافي وقال علي عبدالله صالح اليمن تختلف , وسقط صالح , وقال بثار الأسد سورية تختلف .
فكل الدلائل والوقائع , وثورة الشعب السوري وزخمها وصبرها وزيادة علوها وبريقها وعطاؤها , ولم يقتنع بعد المجرم في سورية , انه ساقط لامحالة .
فلعله يفهم بلغة قراءة الطالع في فنجان القهوة , فعم يقتنعون بالوهم ويتعلقون فيه , أكثر من الحقائق والوقائع
ومن ثم ناولته الكوب وقلت له انظر لهذه الرسومات في داخله , فنظر بداخل الفنجان , بسخط ولم يدقق في الرسومات , ثم ناولها للذي يليه , وبعد أن دقق الجميع في الصور , ولكن لم يعلق عليها أحد, سوى بعض الكلمات المعبرة عن السخرية والغرابة .
ومن ثم تناولت الفنجان بيدي , وطلبت منهم التجمع حولي , وبدأت أشرح لهم عن الصورالموجودة في الفنجان , كأنها لوحة زيتية رسمتها يد فنان عبقري .
انظروا إلى هذين الجبلين , الذي على اليمين جبل عال جداً ,قائم لوحده كأنه تم نصبه في هذا المكان , وفي اليسار هنا سلسلة جبلية , وأعلى قمة فيها يفصلها هذا الوادي عن الجبل الآخر , وهنا يوجد شخص قد انزلق من قمة جبل السلسلة حتى وصل لقعر الوادي , شكله قد مات , ووجهه للأعلى وجسمه وقدماه , على حافة السلسلة , وعند رأسه نبتت شجرة عملاقة , وحيدة لايوجد حولها ولا شجرة , ولا دغل صغيرٌ حتى , وهذه الشجرة العملاقة الباسقة , والمتجمعة أغصانها , علت فوق ذك الجبل الشاهق , وأصبحت كانها تنظر إلى الجبل بعين العطف والحنان ,لعلو همتها وارتفاعها مقارنة بعلو الجبل .
فقال الشيخ خالد , هو منظر رسمته أنفاسك , عندما كنت تشرب القهوة , ولكن هذا لايعني شيئاً .
فقلت لهم اسمعوني حتى أكمل الحديث , منذ أربعة عقود قالت إحدى قريباتي في القرية , بعد أن شربنا القهوة , وأعطتني فنجانها المقلوب وقالت إقرأه لي؟
فوجدت فيه , صورة تعبر عن رجل وامرأة يقفان على طرف الوادي , وفتاة وراؤهما تدفعهما بقوة باتجاهه , ومع قناعتي واعتقادي لايعلم الغيب إلا الله , وما كان الامر إلا مزاحاً بيننا
فقلت لها سوف يأتي لطلب يدك رجل وامرأة من القرية الأخرى , ولكنك سترفضين العريس ولن تقبلين بطلبهم وسيعودان خائبين , وشاء القدر أن يأتي بعد يومين رجل وزوجه من نفس القرية , وطلبا يدها لابنهما, ولكنها رفضت القبول , ولا أدري لماذا هذه الرسوم ذكرتني بتلك , عندما شاهدت هذه الرسومات في هذا الكوب , فكان تحليلي الآتي :
فالجبل الشاهق المنفرد يذكرني منظره بجبل في سورية يسمى جبل الأقرع , وجبل الأقرع يقابل قريتي , والسلسلة الأخرى تذكرني بالسلسلة المسماة بجبل العلويين , وهذا الشخص المقتول في قعر الوادي هو بثار الأثد , والشجرة هي الثورة السورية , فجذورها في أعماق الأرض تسقى من مياه الجبال الصخرية العذبة النقية , ورأسها فاق هامات الجبال بعلوه وشموخه , وهي وحيدة لاناصر لها ولا عون ولا جار, إلا الله تعالى , فهي كثورتنا بالضبط .
فانفاسي كلها مع الثورة في حلوها ومرها , ولذلك رسمت أنفاسي هذه الرسوم , لتقول لكم وقالت قبلها لي , فثورتنا هي تلك الشجرة الباسقة , وقمتها تلامس السماء , تسقى من ماء هذه الأرض الطيبة المباركة مياه بلاد الشام بردى والفرات والعاصي , وحيدة في شكلها وحيدة في تحديها , وحيدة في مسارها , ستنتصر وستنبت أشجار الحرية في ربوعها , وتعيد أمجاد وكرامة أبنائها ,وستسقط الطغاة فيها ,سقوطاً مدويا لاعودة لهم فيها أبداً.
هي لوحة الثورة المباركة رسمتها أنفاس الثورة , وفي القريب سترون نصر الله تعالى بين أيديكم أيها الحرائر الأحرار و السوريون .