عندما بكى أستاذ القومية

خرج استاذ الديانة من غرفة المدير و بقي الأساتذة مجتمعين, و التفتت آنسة الفيزياء و قالت للجميع و قد بان عليها الإستياء والضيق, يعني هدا الاستاذ يلي ماقدر يتحمل أكثر من هيك, أقول لهالرجولة الحقيقية لا تنتظر أربعين سنة لتظهر أو دولا أخرى لتبدأ, ولو كنت أصلاً لهذه الدرجة مزعوج  لما انتظرت كل هذا الوقت لتثور .... و أدارت نظرها بين الاساتذة الثائرين و قالت لهم  بتهكم جلي: أنتم يا أعزائي مستفيدون من هذا النظام ولا أظن حالكم سيكون أفضل لا مادياً ولا معنويا بغيره ولن يأتي السيد غليون أو غيره و يفتح بابه للشعب ويقول تفضلوا ياجماعة مين عندو شكوى يتفضل يحكي, وهو طالع من عندوا مارح يحط بإيدو كيس مصاري مكافأة, أو ينزل للشوارع  ويوزع مصاري للمحتاجين!

 لأ عفواً غلطانة حبيبتي أردفت آنسة الرسم, أصلاً ما راح يكون في محتاجين على وقتوا, وكل الشباب رح يوزعولن بيوت مجاناً ويوزعوا مصاري على دفتر العائلة  ...وووووو  كل ثورة وانتو بخير.

ابتسم أستاذ التاريخ و قال: 

اختي غلطنا و منك السماح و علينا العتب

فرطنا بحقنا سابقا و سكتنا على مضض

شفنا شو عملوا بحماة فخرسنا من الخوف وهادا كان السبب 

يعني راحت علينا الفرصة ولازم نخرس و نخنع للابد؟

تقول لي خرجت وتظاهرت فلماذا الآن, أقول لك امتى لكان؟ بعد ألف عام

الآن هبت رياح الحرية, أأنتظر نهاية الألفية

سابقا فرطت بحقي و خرست و سكرت تمي

ورضيت 40 سنة بالجلاد و سكت على الذل و الهوان

 اسمعي اختي, بتعرفي زنوج أمريكا مو؟ 

صبروا على العبودية وهبوا بعد قرون

والروس خنعوا للقيصر دهور

والفرنسيون والرومانيون مثلهم ثم انتفضوا وبعد عهود.

أهل تونس سلكوا قبلنا هذا المضيق ومصر واليمن وليبيا عبدوا لنا الطريق 

استفاقوا من بعد النوم العميق وما سكتوا على لظالم العتيد

أنقول لهم لماذا الان؟ انتظروا ليتحنن عليكم الملهم بشار؟

فيمطركم برحمات من سحائب خطبه الرنانة مصحوبة بضحكاته المتملقة الطنانة

أم نقول لهم اصبروا والصبر جميل, وادعوا الله أن ينزل النصر مع جبريل!!

اختي, نحن لا نريد بيوتا و لا مصاري و لا حتى سيارات و لا ملاهي

نحن نطالب بالحرية كتير معقدة هل قضية؟

لهل درجة على الفهم عصية و على النظام ابية؟

فقالت آنسة الرسم, ويعني شو رح يصير بعد هلأ؟ خلينا نحسب أنو سقط النظام .. رح نستفيد ؟؟

رد أستاذ التاريخ بتستفيدي  اذا عندك احساس و كان همك غيرك من الناس

انت عايشة من قلة الموت بس مفكرة حالك ملكة آلموت

لانك حاطة راسك بين الروس و عم تستني قطاع الروس

اذا كنت عميا كيف بدي اشرح لك الفرق بين اللون الاسود و بين الجيوكندا

واذا انت طرشة كيف رح تعرفي الفرق بين صوت فيروز و بين الكمنجة؟

يلي ما بيستطعم بالحليمات الذوقية بعمره لن يشعر بطعم اللحمة المشوية

ويلي ما بيشم بعمره لن يفهم الفرق بين ريحة قليط وبين الزنبقة الشامية

يلي طول عمره عايش عبد بقفص ومفكر حاله في الجنة رقد, ما بيستفيد

ولكن لما تتحررين من العبودية وتعتقين الى الحرية

لما تخرجين من  جور الاحكام الامنية الى السلام والعدالة الاجتماعية

لما تدفعين الدِّيَة ستعلمين ما معنى الحياة الكريمة والعيشة الهنية

قال لو جربتم ما جربنا لعرفتم ما عرفنا

هنا مال أستاذ الجغرافية من على كرسيه من جديد و قال لفتت نظري آراؤكم حول دراسة الاستاذ هنا وكم كلفته . لماذا لا تعترفون أن الدراسة هنا مجانية وبجدارة وإلزامية حرصا لأن لا يبقى أي طفل دون تعليم؟  وحتى الدراسة الجامعية عندنا تعتبر مجانية بالنسبة للدول التي تعتبرونها قدوة ومثال, لاحظ انني لا أقول كل شئ جيد ومثالي ولكن المجالات الجيدة لا ننكرها ونعتبرها غير موجودة

شوف أخي, رد أستاذ التاريخ, نحن لم ننكر كل شئ و لكننا نسعى للافضل و للخير

و اما كلامك فأرد عليه فأقول الدراسة مجانية في كل الدول حتى الاسكندنافية

مرورا بالصين قفزا الى الفيلبين

وحتى في الدول الفقيرة كباكستان و الهند و كشمير

كما انها ليست من حسنات البعثيين بل موجودة من اول, من ايام العثمانيين

اما كلامك عن القدوة و المثال فليست امريكا لنا بقدوة ولا مثال وما لنا غير الاسلام و محمد عليه الصلاة و السلام

ومن دون لف ولا دوران و ان كنا لا نفرض ذلك عليك ياحباب

عفوا منكم, تدخل المدير و قال, أرجو إعطاء الفرصة لأستاذ القومية, فالرجل يريد الكلام, فاعتدل الرجل متكتفا في الحال و قال مخاطبا الجمع, ليتني فعلا أستحق لقب أستاذ قومية بكل ما يشترطه هذا اللقب من أن يتوفر في حامله العديد من القدرات والمؤهلات والإتساع في المعرفة والبحث والتقصي لتاريخ الأمة ومعاناتها في ماضيها وحاضرها والعوامل التي جعلت منها أمة رائدة منذ ألف عام تخوض في بحور الريادة في الفكر و العلوم والإبداع و الإبتكار من  الأندلس وحتى أبواب الصين. دون أي موانع أو حدود تنسب اليوم ظلما للشريعة

والله لقد صدق أستاذ الديانة, تمتم أستاذ التاريخ ...

أخي استاذ القومية اسمح لي, انت فعلا عندك مشكلة مع الشريعة الاسلامية... 

أخي أنت لا تفكر بحرية ولا روية بل قرارتك هجومية تكفيرية!

يعني هلأ حضرتك أستاذ تاريخ ولاّ أستاذ ديانة مشان نفهم, قالت آنسة الرسم ...

فقال لها لأني أستاذ تاريخ و قرأت تاريخ البشرية فأقول لك وبمنتهى الشفافية

من دون الشريعة الاسلامية ماكانوا لاراحوا ولا اجوا الشعوب العربية 

و لا شافوا لا الهند و لا الصين و لا الاندلس و لا الفلبين

وللمساعدة هناك كتاب لمستشرقة المانية اسمه شمس الاسلام تسطع على الغرب, مع انهم لما ترجموه قلبوا اسموا لشمس العرب

ولكن العنوان الاصلي معروف وبإمكانك الرجوع إلى مكتبة المدرسة فالكتاب موجود.

وبالمناسبة كمان وعلى اي حال فاكثر العلماء القدامى لم يكونوا  من العرب بل من موالي المسلمين.

والغريب يا أستاذ قومية انك في ايميل سابق كنت تمدح في نصر الله و حزبه العظيم و امه ايران

وبغض النظر عن وجهة نظري للموضوع و لكن الفت انتباهك ان امين الحزب يلبس عمامة و امه اسمها الجمهورية الاسلامية, يعني عندهم في شريعة بغض النظر على ماذا تقوم.....

فإذا العمامة السوداء على قلبك احلى منفكر فيها؟ بس ما علينا, لندخل في المهم و لا نضيع الموضوع فليس هذا مجال بحثنا

و لكن ايضا على الهامش للاستئناس و التوضيح,

هناك فترة من التاريخ حكمها الاسلام و المسلمون انتشر فيها العلم و المبتكرات و الفنون

ولا ينكر ذلك الا مكابر كذاب و لا اتحدث طبعا عن فترة الانحطاط التي ما خلا منها مجتمع من المجتمعات ...

وبالمقابل هناك فترة حكمها البعثيون باسم الانفتاح و محاربة الرجعية و الدين, فَهُمش فيها مع غيرهم من المجتمع المسلمون وساد فيها عصر الجهل و دياجير الظلام و انتشر المجون, و قد قالوا عن التجربة الجيدة اسأل مجرب و لا تسأل حكيم, و قالوا عن تجربة حافظ و ابنه و البعثيين من جرب المجرب فعقله مخرب, 

قاطعه أستاذ الفلسفة, بتعرف, هذا عندي اسمه دليل من الواقع التجريبي ... 

بالضبط, أردف أستاذ التاريخ! كذلك الفت انتباهك أخي الكريم ان المعارك التي يتبجح بها القوميون في خطاباتهم كان يخوضها قادة مسلمون كالقادسية و حطين و عين جالوت ..

طأطأ أستاذ القومية رأسه و تنهد وقال, يبدو أنك صدقت, ثم تابع, الحقيقة التي يجب قولها و التي لم أستطع فهمها رغم أني فعلا أستاذ قومية, أن أساتذة القومية الزملاء الذين تعرفت إليهم من خلال المرحلة الثانوية لأولادي كانوا يدركون أنهم بصدد مقرر دراسي غني بالتعقيد والأفكار والمباديء و الطروحات المتداخلة والصعبة والمبهمة التي جعلت الطلاب من الأجيال الناشئة يكرهون هذا المقرر الهام الذي يفترض أنه يجذب العقول والأفئدة  ويغني الذاكرة الوطنية ويحفز في النفوس الإعتزاز الوطني المتلاحم بقوة مع القومي, حولت أجيالنا الى مبتكرين ومبدعين في تجاهل هذا المقرر فيعمدون لإبتكار طرق شتى في البصم للمقرر, أي الحفظ دون الفهم . وزاد الطين بلة أن هذه الأجيال لم تجد ما يترجم البعض المفهوم من المقرر على واقع حياتهم في اسرهم ومجتمعهم . وزاد الطين بلة تمثلت في إستثمار الأستاذ لحالة عجز الطلاب عن فهم المقرر بأن يلمح لهم بتقديم الهدايا في نهاية العام فتكون العلامة حسب الإمكانية المادية لعائلة الطالب و مقدار الهدية..

طبعا يا استاذ استلم أستاذ الفلسفة الكلام: اليس لانكم تُدَرِّسُون امرا على الاذهان مستحيل كطلاسم السحرة و المنجمين؟

اليس لانكم تريدون منهم استبدال الجوهر الثمين كتاب رب العالمين بعلاك مصدي شغل أيديكم؟

في امريكا في الوطنية يدرسونهم تاريخ كولومبوس و الحرب الاهلية التي انهت العبودية, لا يهمشون انسانا بل يذكرون ماله و ما عليه و لو كان رئيسا او سلطانا ...

في فرنسا يدرسونهم الثورة و تاريخ الغال و البرابرة و القديسة جان, الا في بلادنا يذكرون تاريخ الجاهلية و معركة ذي قار ثم يقفزون متجاوزين الاسلام الى الوطنية التي هي حب الاسد, و القومية و التي هي العبودية له للابد...

ولو تجرأت ان تقول ان كل اقربائه في السلطة و الجيش و الامن فانت عديم الوطنية

ولو قلت مابال المتنفذين كلهم علويون, فانت لم تعرف القومية و يلزمك دروس حزبية و اكيد زيارة للمخابرات الجوية!

تصور لو درسنا بدلا عن مادة القومية تاريخ الفتوحات الاسلامية و ازمنة الانتصارات على الشرك و العبودية

تصور لو درسنا تاريخ الرجال الذين همشناهم لحساب اسدنا المغوار, 

الم يكن اسهل على الاطفال و اكثر تاثيرا في المشاعر و الاذهان؟

لكنه الخوف من ان يجرؤ ذكرهم ان يطغى على هالة السلطان فيعريه امام الانام.

منِ الاسد امام جندي في جيش صلاح الدين و دابة في جيش بن الخطاب؟

اما زملاءك استاذة الوطنية, فمعلومك أن أكثرهم خريجون للمعاهد الاسدية

ذوات الخبرة بالسرقة و النصب و العبودية و ابعد ما تكون عن الاخلاق و المسؤولية.

ساد صمتٌ المكان, و أطرق أستاذ القومية رأسه في الأرض حزينا ثم قال, من مظاهر التردي الثقافي في مجتمعنا ومنذ نصف قرن أننا أضعنا كليا مفهوم الهيبة والإحترام والتقدير لمفهوم الأستذة, تفردنا في ذلك المنحى الخطير عن كل شعوب العالم التي بقيت ترتقي في فهمها لمعاني الأستذة ولقب (أستاذ). 

قفز استاذ الفيزياء قائلا سأقول لك لماذا و تعطيني الجائزة؟

ابتسم أستاذ القومية و قال هي لك ...

حسنا, هي قصة حقيقية حدثت لزميل لي في المدرسة التي كنت فيها قبل أن أنتقل إلى هنا, و ابتسم متابعا و قد كان زميلي هذا استاذا للفلسفة و كان والله من خيرة الناس علما و ادبا, وكان معارا في الجزائر لعشرات السنين درس فيها اللغة العربية وغيرها و اتى البلد بعد حين فلم يعرفها و لم تعرفه و تنكرت له فاستوحش منها

كان يوما في الدرس فدخل الفصل طالب اسمه "عماد" من دون حاضر و لا دستور و لا احترام 

حتى انه نظر الى الاستاذ باحتقار

فاكمل الاستاذ الدرس بإدبه الجم, لكن مالبث الطالب و أرجوك لا تستغرب, فهو ربيب شوارع و اكملت تربيته الدورات المظلية, أن قام و صار يكلم فلانا و فلان, ثم اتجه الى الباب فقال له الاستاذ اجلس يا فلان, فما كان منه الا ان استل مسدسه المكروف الذي اهدوه اياه بعد ان قفز و خرج عن كل مألوف, و صوبه الى الاستاذ المسكين الذي جاوز و الله اعلم الستين, و كلمه بكلمات حاشاك و السامعين ...

أخبرني, من الذي اضاع هذه الهيبة؟ انا و انت يا أستاذ؟؟؟؟؟

 أخبره يا أستاذ اخبره, قال استاذ التاريخ, إي و الله و الله يا استاذ, و شكرا يأستاذ الفيزياء على هذا المثال, رغم أني أستاذ, إلا أني الى الان اتشرف اذا رايت استاذا لي في اي مكان ان اقوم و اسلم عليه ممتنا شاكرا سائلا منه المغفرة و السماح ان اكون قصرت معه مرة من زمان.

و للمعلومية يا أستاذ القومية و على الهامش, عماد هذا الذي لا يفقه شيئا و أعرفه جيدا, سهلت له قفزته المظلية القفز من دون علامات الى الكلية الطبية ثم عضوا او رئيسا لاتحاد الطلاب فيها, يعني صار متل صاحبك دكتور العيون: من دكتور صغير, لضابط ابن رئيس, ثم لضابط كبير, ثم لرئيس, شفت بحياتك متل هل تخبيص!

ساد المكان الهدوءُ و اغرورقت عينا أستاذ القومية بالدموع ...

وفي هذه الأثناء تناهى إلى الأسماع وقع خطوات متسارعة تتسابق نحو الباب, الذي مالبث أن انفتح على مصراعيه واندفع من خلاله اثنان من الزملاء ... حسين مدرب العسكرية و عماد موجه التربية الذي مشى و توسط الغرفة في الحال و أسند اليدين على الخاصرتين و تاهت عيناه بين المجتمعين ثم جمدت على عيني المدير و قال: كأنّي سمعتُ اسمي من بعيد ...

يتبع ...