يوميات بلا أسرار لأهلنا في المخيمات
الجزء الأول: معاناة الرحيل وطفل الحدود
نسيبة بحرو
مقدمة :
تصفية الناشطين ، قنص المتظاهرين ، التنكيل بالمعتقلين ، التمثيل بالشهداء ، اقتحام المنازل ، قهر الرجال ، تعذيب الأطفال ، اغتصاب النساء ،
سرقة الممتلكات ، تسميم المياه ، إعدام الدواب ، حصار الدبابات ، قصف الطائرات ..
هذه بعض إعتداءات النظام الأسدي الإجرامي التي مارسها في حق الشعب السوري لمنعه من التظاهر السلمي والمطالبة بالكرامة والحرية ..
وما خفي كان أعظم !!
وتحت شدة وتصاعد هذه الإعتداءات ، فارق المواطن السوري تراب الوطن ليحمل هوية لاجيء على الأراضي التركية ..
*** *** ***
الجزء الأول
معاناة الرحيل وطفل الحدود :
انتفض الشعب السوري بمدنه وأريافه وأطيافه انتفاضة جسد واحد ضد نظام الظلم والاستعباد والفساد ، فتوحدت صفوفه وكلمته في ثورة كرامة وحرية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها في القوة والاستمرارية والسلمية..
هذه المطالب دفعت النظام السوري للجنون ، فكشف عن نفسه أقنعة الخديعة وأظهر وجه الرذيلة ، متجرداً من الانسانية ومعلناً الحرب على شعبه .. متمادياً في أفعاله الإجرامية التي مارسها بعنف لقمع الثورة .. دون أدنى تمييز بين رجل وامرأة ، أو بين كبير وصغير ، أو بين مسن ورضيع ..
تصدى الشعب الحر لطغيانه وبطشه بمزيد من المظاهرات السلمية اليومية ، وبمواقف عز تتصف بالصمود والإباء والشجاعة ، لا سيما من أحرار الجيش الذين عادوا إلى صفوف الشعب وأزالوا من أنفسهم الولاء للأسد وأعلنوا الانشقاق ..
اشتد تبعاً لذلك أذى النظام ، وما زادته هذه السلمية إلا هدراً للدماء وهتكاً للأعراض وفتكاً بالبشر، ففرض الحصار وأدخل الجيش والشبيحة والدبابات ، يقتلون وينهبون ويعيثون في الأرض الفساد ويزرعون الدمار بلا حساب .. حتى أصبحت الحياة في هذه المدن مستحيلة ..
هذه الظروف القاسية أجبرت المواطنين على ترك أعمالهم ومنازلهم وحياة الاستقرار .. فحملوا ما قل من أمتعتهم وخرجوا في رحلة دون تخطيط ، فارين من بطش الطغاة إلى مصيرٍ مجهول ، وتابعوا السير رغم المشقة والصعاب ، حتى وصلوا الى المدن القريبة المجاورة ، أملاً بالأمن والأمان ..
رحب بهم أهالي المدن الصغيرة ، ولم تثنهم أعداد الوفود الكبيرة عن حسن الاستقبال ، فتقاسموا معهم المسكن والمأكل رغم الظروف الحالكة وقلة الموارد والإمكانات .
إلا أن ذلك لم يدم طويلاً .. فما أن أنهت العصابات الأسدية عمليات القتل والتدمير والتخريب في مدنهم .. حتى امتد بطشهم إلى المدن المجاورة ، مما أجبر المواطنين على المغادرة من جديد .. إلى أين ؟
إلى خارج الوطن ..إلى الأراضي التركية .
*** *** ***
رحلة صعبة تكتنفها المخاوف والآلام .. السير براً تحت لهيب الشمس وفوق عثرات الأرض .. اليد الأولى تحمل الأمتعة ، والثانية تحمل الأطفال ، بينما يحمل القلب أوجاع الوطن ..
عين تنظر الى الخلف تخشى غدر العدو المسمى بابن الوطن ، وأخرى تنظر الى الأمام ترقب بر الأمان .. وكلتا العينتين تذرفان دموع القهر والحرمان ..
أمضوا في السير ساعات وساعات ، كباراً وصغاراً.. رجالاً وأطفالاً ، أما السيدات فقد أجبرن على ترك مملكتهن الصغيرة ليدخلن هذه الرحلة الصعبة التي يشقى بها الأشداء من الرجال ..
من السيدات من تحمل في بطنها جنيناً ، ومنهن من تحمله بين يديها رضيعاً .. ومنهن امرأة مسنة تعاني أمراضاً مضى عليها السنوات أو الشهور أو الأيام ..
ولعل معاناتهن تهون أمام معاناة والدة مصطفى .. التي ما إن لاحت لها الحدود التركية ..حتى انتفض مصطفى في رحمها مقبلاً على الحياة ورافضاً أن تكون ولادته فوق أرض ليست أرضه .. متشبثاً بأن يكون من مواليد وطنه .. فحانت ساعة ولادته عند الشريط على الحدود ..
رمال وسماء وصرخات في العراء .. لا وجود لأي معدات وأدوات .. لا وجود لطبابة أو اسعاف .. لا وجود لأي شيء ينقذ الموقف سوى محاولة انسانية من سيدة دون خبرة .. سارعت للنجدة أملاً بانقاذ الأم والجنين من هذا الموقف العسر .. وبعون من الله نجحت ..
وجاء طفل الحدود مصطفى ، جاء في هذا المكان تحديداً ليبقى سجل ميلاده وصمة عار على النظام السوري الآثم الذي هجر شعبه فحولهم من مواطنين إلى مهجرين ..
*** *** ***
وصل المواطنون السوريون أخيراً إلى الحدود التركية فاحتوتهم المخيمات .. وأحاطت بهم الأسوار التي فرضت عليهم حياة جديدة ..
تروي حكاياتها الأجزاء القادمة من يوميات بلا أسرار لأهلنا في المخيمات ..