تَأشِيرَةُ دُخُول
عوني وتد - عرب 48
" لستُ ناقماً على السلطةِ،فنضالاتُها أمجَدُ من أسِنَةِ حروفي..ولست حاقداً على رجالاتها،فحُماتُها أقْوَمُ من خربشات سطوري! انما سيبقى قلمي..خنجراً في قلب الفساد، ومِجَناً.. في وجه الأضطهاد.
وسأصرخ بعالي صوتي: "شعبُ الجَبّارينَ لا ترعِبُهُ الأصفاد".
(عوني وتد، ورقم هويتي خمسون الف)
عَرَبـَةُ العَقِيدِ
"عصامٌ" فتى في ريعان شبابه النَدِيّ، ابن مُخيم "نُورُ شَمْسٍ" الفلسطيني ..عَريِنُ كِفاحٍ ووفاء،وَمَعْقَلُ جِرَاحٍ وفِدَاء.يمر بمحاذاته الغادي والبادي الى مدينة "طولكرم" الباسلة.
بعد أسْرِ والده المُعيِلُ الوحيد، وَجَدَ عصام نفسه يُقَارِعُ عشرات العربات،التي يَتَزَاحَمُ أصحابُها على التِقَاطِ لُقْمة عيشهم فوق باحات، وبين أزقة سوق الحسبة في المدينة.فهم يتسابقون على حمل مشتريات وأمتعة رُوّاد السوق، ونقلها الى مركباتهم الراكنة في الساحات الخلفية.
وعصامنا.. والذي كان بالامس طالب المدرسة المهنيّة الثانويّة،بنى عربته من العجلات القديمة،والقطع الحديدية الصدئة ،وبعض من الالواح الخشبية المنخورة، حيث جمعها من مجمع نفايات المدينة المجاور لمخيمه.
وراح يسعى ويكدّ وراء لقمة عيش عائلتة، المعجونة بعرق العِزّة ،والمجبولة بقمح الكرامة وخميرة الايثار.
أشرت اليه من أقصى الحسبة،فهرع نحوي يَجُرّ عربته المتمايلة يٌسْرَةً، والمُتَأرْجِة يُمْنَةً..فحمدت الله على وصوله عندي سالماً غانِمًا..
طفقنا معاً نجوب السوق بين بائعي الخضارالبلديّة، والفواكه النديّة..بمرافقة جَلْجَلَةِ وجَلَبَةِ،طَقْطَقَةِ وصَلْصَلَةِ العجلات، وكأننا نَقْرَعُ طبول حَرْبٍ ضَرُوسٍ،شَتتَت نداءات البائعين، وبَدَدَت صراخ المُرَوِجين.
بيد ان هذه الموسيقى العسكرية، لم تمنعنا من تداول اطراف الحديثكلما انتهينا من شراء فاكهة هنا، وخضار هناك.
- والله يا عم ! البارحة لم أعد الى بيتي حتى بفلسٍ ابيضٍ واحد!
- ألم يكن روادٌ في السوق؟
- كان منهم الكثير،لكن رجالات عقيد شرطة الاسواق استدعوني لجمع ما يحضِّرونه الباعة كُلّ سَبتٍ من الهدايا والعطايا لجناب العقيد،فبضاعة يوم السبت طازجة وكثيرة.
- ألم تتقاضى أجرك منهم؟!
- بعد أن جمعنا العطايا،وأودعتها في دَبّةِ (خزانة) "شَبَحِ " العقيد..قال لي احد رجال الشرطة:
"انطلق ! سيتولى أجرك العقيد".
- لا عليك، لا تقلق.. ها هو العقيد سيسدي لك أجرك.
(علت شفتيه ابتسامة خفيفة هي اقرب للسخرية من الدهشة)ورد قائلاً:
- راحت عليَّ يا عم ..جميع اصحاب العربات في السوق ما زالوا ينتظرون اسداءات العقيد.
- ومن يكون هذا العقيد؟
- انظر الى تلك "الشبح" الفاخرة ! انها له،يركنها كل يوم فوق ساحة المسجد ،ويقضي نهاره في ذلك المطعم الشعبي .
(أطلق قهقهةً مدويّةً،لفتت انتباه بعض رواد السوق وعلت على موسيقى العجلات،وأردف هامساً)
- عقيدنا يحب رِيّشَ الضأنِ والكباب..
- ما اسم هذا العقيد؟ دعني اكلمه !
- لا ،لا يا عم ! اتركنا من السياسة..واصحاب السياسة ،أمري الى الله...
- يكفي يا عصام ! لقد فرغت من مشترياتي،هيا اتبعني الى مركبتي!
وصلنا ساحة وقوف المركبات العامة،وشرعنا معاً نفرغ عربة عصام ونرتبها في خزانة مركبتي وساعداه المفتولان يسابقا يديّ في العمل،ناولته ما قَدّرني الله من اجرته التي يستحقها..فأخذها بيمينه المباركة ،قبلها وأودعها في جيبه.
- استودعك الله يا عم.
- بأمان الله يا عصام.
عاد عصام مهرولاً الى السوق،بينما وقفت أرقبه من بعيد،وادعو له بالخير على أنغام عجلات عربته المتمايلة..أنغامٌ أنقى وأعذب من كل المحافل الرسمية،فشدوت في نفسي:
" ما اروع عربتك يا عصام ،وما أعظم عملك وكدك النبيلين..ولتعلم الدنيا بأسرها،.بأن حبة عرقٍ واحدة من أهالي المخيمات الكادحين،أنفس وأطهر من كل "أشباح" العُقٌدَاءِ أجمعين."
جلست خلف مِقودي،وما ان ادرت مفتاح المحرك حتى انطلق صوت الحادي "عامر الاشقر" الفلسطيني من المذياع :
" الي قطعة أرض في البلد وَعْرَه...خذوها الي أجوا حُفاه وعْرَاه...
بَحِبْ ببلدتي أجوع وأعْرَى.. ولا بالغربه أكَدِّسْ ذَهّبْ ".
أرجو الدخول: