كانت أنيستي
نعماء المجذوب
تناهى إلى سمعي بعد منتصف الليل مواء لقطة فيه استغاثة قوية، كأنها تريد أن توقظ سكان العمارة.. أطللت من النافذة على الحديقة، مررت بنظراتي المتفحصة من خلال أنوار الشوارع الباهتة عبر الشجر، وفي كل شيء، فلم أر قطة أو ما شابه ذلك.
يبدو أنها أحست أن إنساناً يطل من إحدى النوافذ فاشتد مواؤها وعلا.
بحيرة تساءلت:
"أتستغيثين من جوع وعطش، أو من ألم؟"
ألقيت في الحديقة شيئاً من الطعام، سكن الصوت لفترة، ثم ما لبث أن عاود المواء بذعر غير معهود.. خشيت أن أهبط إليها من بيتي المرتفع في هذا الوقت المتأخر، فآثرت إغلاق النافذة، وأنا أتصور عقرباً أو أفعى قد لسع إحدى القطط.
فهل بإمكاني إسعافها؟.. ما أظن ذلك.
في الصباح الباكر ازداد صياحها، قلت: لا بد أن مكروهاً قد حصل لها.
بمجرد دخولي من باب الحديقة اشتد المواء، وكأنها قد أحست بوجودي.. أخذت أبحث، ولا أدري من أي ركن ينبعث الصوت.. بمواء ذي نغمة معينة نادتني وكأنها تقول: أنا هنا، هنا، ولست هنالك. ثم شاهدتها ممددة فوق الأرض، تلسعها أشعة الشمس، لا حراك في جسدها، سوى عينيها اللتين تتجولان في كل اتجاه، وترقبان كل حركة، بدهشة صرخت:
ما هذا الذي أرى؟
قطتي الأليفة؟
رأيت شكلها قد تغير، تساءلت بحيرة:
أين جمال شعرها الناعم المنفوش؟
أين جمال ذيلها الثخين؟
والرشاقة والمواء الرخيم أين هما حين كانت تراني، وتلاحقني في الحديقة؟
ما الذي دهاها؟
تفحصت المكان..
الآن عرفت لقد وقع مصراع الباب الحديدي فوقها، استطاعت بمرونة أن تنسل من تحته، ولكن كان قد أصابها إصابة بالغة شلت جسدها كله.
آلمني المشهد أشد إيلام، وكان أكبر من أن أنقذها منه.
نظرت إلي نظرات استعطاف، اطمأنت لوجودي قربها، وتوقفت عن المواء، حاورتها:
- ماذا جرى لك يا أليفتي؟ كنت أنيستي حتى الأمس كنت تقفزين بخفة بين الزهر والشجر، وفوق الحشائش، تتباهين بجمالك، وتنفشين شعر جسدك وذيلك وتتمسحين بقدمي وأنت تقوسين ظهرك، وتسمعينني إيقاعات رخية كالموسيقى من فمك.
تصورتها وهي تجري ورائي، وأجري وراءها ويلتقي ضحكي بموائها، كانت تستقبلني كطفلة مرحة، ببهجة فائقة تسترعي انتباهي برشاقتها.
رأيت عينيها تتوسلان كانتا تترقرقان لست أدري هل من دمع وبكاء، أم من فرحة اللقاء؟ وصوت خافت يتلجلج في حلقها.
ما عساي أن أفعل لها بعد أن كانت أنساً لي؟
برفق وحنان مسحت على رأسها وجسدها المرتعش مسحات متتالية.. استكانت، كانت نظراتها تكلمني من غير كلام، سحبتها إلى الظل، وصببت في فمها قطرات من ماء وحليب.
كانت أمها تراقبني بانكسار، تتمسح بجذع شجرة تموء بحزن شديد، فبكيت حزناً عليهما، قلت:
سبحان الله! لو درت الكلام لكلمتني.
ماذا أفعل؟
رفعت نظري إلى السماء، وبتضرع ورجاء دعوت الله قائلة:
رب، أرحها بالشفاء، أو بالموت.
فارقت قطتي الحياة بعد ساعة، ثم رأيت عامل النظافة يحملها بقرف ليلقيها في الحاوية بين القاذورات.
تأملت المشهد بمشاعر متماوجة، تذكرت قول الله تعالى: (ثم أماته فأقبره) كيف أنه سبحانه كرم الإنسان بعد موته وجعل له قبراً يوارى فيه إكراماً له، ولم يجعله ملقى للسباع والوحوش.
سبحان الله! إنها تكرمة منه لبني آدم على سائر الحيوانات.
كانت القطة الأم حاملاً، لم أرها بعد هذا اليوم سوى زيارات متباعدة عند باب البيت، فقد اختارت مكاناً أكثر أمناً لتضع فيه صغارها.. لفت نظري ضعفها باستمرار، ونظراتها المعبرة.
هل الدنيا صراع بين الفرح والحزن، بين اليأس والرجاء، بين اللقاء والفراق.
قلت: بل أراها عذاباً في عذاب.