بقايا ليلة سوداء
رؤى صبري
جاءت نهاية الفصل الدراسي الجامعي بكل ما تحمله معها من هموم الامتحانات وضغوطاتها ، ألقيت نظرة على الجدول ، وبلا شعور خرجت من أعماق صدري زفرة أعادت توازني من جديد، رفعت بصري لأجد أن أغلب الطلبة قد غادروا المبني حملت كتبي وخرجت من القاعة متجها نحو السيارة ، وأنا أحاول أن أنظم وقتي بين دراسة مختلف المواد ، خاصة أنها سنتي الأخيرة في كلية الهندسة ويجب علي أن احصل على تقدير محترم,دخلت السيارة قذفت بكتبي إلى المقعد الخلفي أدرت المحرك ورحت أعبث بالراديو للبحث عن أغاني غربية تسليني في الطريق,وهنا سمعت باب السيارة الأيمن يفتح بغتة رفعت رأسي سريعا لأفاجأ بأنه صديقي رشاد انفتحت أساريري وصرخت بأعلى صوتي :
أين أنت يا رجل ؟ لقد ظننت أنك ذهبت إلى البيت.
رمقني بنظرته المعتادة التي يرسلها نحوي كلما قابلني ،أخرج علبة السجائر من جيب بنطلونه الخلفي ، أشعل واحدة منها لثمها كعاشق غجري في ليلة مثلجة،أخذ نفسا عميقا وقال:
لا لم أذهب لكني لم أحضر محاضرة الرياضيات فأنت تعرف كم أكره دكتور المادة.
استرخيت في مقعدي وأجبت بتهكم:
كم أتمنى أن أعرف من تحب ... !
رد وهو يضحك بصوت عالي:
أحبك أنت!!!
شاركته الضحك على رده الساخر وعدت لأسأله :
هل حصلت على جدول الامتحانات؟
عبس وجهه ورد بحدة :
لماذا لا تتحدث عن مواضيع مبهجة.
رددت ببرود قائلا:
الامتحانات قادمة يوم السبت ولن يفيد إنكار قدومها في شيء.!
تجاهل الموضوع تماما وهو يقول:
هيا لقد تأخرنا.
سألته بعجب ممزوج بسخرية:
تأخرنا على ماذا ؟؟!
قال:
أحتاج لأن توصلني لمكان ما.
مطيت شفتي قائلا:
لا يا حبيبي لن آخذك لأي مكان,أريد أن أذهب للمنزل حتى أنام قليلا ومن ثم أستيقظ مستعدا للمذاكرة.
قال بصوت شبه مستعطف:
مازن أنت تعرف أن سيارتي عند الميكانيكي ولن يعيرني أحد سيارته خاصة أنها نهاية الأسبوع ومازالت الساعة الرابعة عصراً أي أننا ما زلنا نملك الوقت الكافي ويمكنك أن تعود للمنزل وتنام كما أن لديك يومان آخران لتستذكر دروسك ,كما أعدك أن نقضي الليلة سهرة ممتعة نرفه بها عن نفسينا قبل بداية الاختبارات.
لانت ملامح وجهي قليلا وبدا عليّ الرضا فسارعني بالقول:
أعدك بأنها ستكون ليلة من ليالي العمر التي لا تنسى.
نظرت إليه متبسماً حيث راقت لي الفكرة وكلها بضع ساعات لا أكثر تنفرج فيها أسارير النفس,ربطت الحزام ووضعت يدي على المقود ، نظرت يميناً لأجد رشاد وقد ربط حزام الأمان بدوره ورفع صوت المذياع الذي كان يبث أغنيته المفضلة.
ومن هنا بدأت الحكاية
ظللنا نتجاذب أطراف الحديث الطويل عن كل شئ الحب ، الزواج ، الجامعة و الأصدقاء ، ومع مرور الوقت وعذوبة الحديث راح ندمي وقلقي يختفيان بالتدريج وحل مكانهما شعور خفيف بالسعادة والبهجة إلى أن بدأ رشاد يوجهني بالولوج إلى شوارع كئيبة ذات أزقة ضيقة ، حينها رحت أتساءل في أعماقي عن ماهية هذا المكان الذي يريد أن يأخذني إليه ؟ لكوني أول مرة أزوره، مع ما خالجني من شعور غريب بدأ يسيطر على قلبي حين دخلت إليه ، نظرت إلى رشاد وبدا لي منشغلا بالبحث عن عنوان بعينه والارتباك بادياً على وجهه ، سألته بقلق :
رشاد إلى أين نحن ذاهبان؟
بدا منزعجا من سؤالي ورد باقتضاب:
ليس الآن يا مازن : استمر في السير ولا تكثر من أسألتك.
صرخت بغضب :
وإن لم أعرف الآن متى سوف أعرف.
تجاهلني تماما وهو يهتف:
هنا هنا عند هذا الباب توقف.
ركنت السيارة بجانب الباب الذي أشار لي بالتوقف عنده مباشرة وبمجرد أن فعلت كان رشاد قد قفز من السيارة وطرق الباب بطريقة معينة ,وهو يتجاهلني تماما ولم يعر نفسه إخباري إذا كان علي أن أنتظره أم لا ، خاصة أني رسميا متورط معه ولا أعرف طريقة للخروج من المتاهة التى أقحمني فيها ، ولا مجال أن أنتظر في السيارة ، فأنا أخشى على نفسي إن ظللت وحيدا في مكان كهذا خصوصا أن الشمس كانت مائلة للغروب والظلام بدأ يخيم على المكان ولا أضواء كاشفة في الحي ، خرجت بدوري من السيارة ولحقت به إذ ترك الباب مواربا ,كانت أسئلة كثيرة تدور في ذهني وحالة من الذهول تنتابني وبالرغم من ذلك كان هناك شيء من الفضول يعتريني للمعرفة,جلسنا في غرفة حقيرة ذات أثاث متسخ وحصيرة بالكاد كانت تغطي الأرض القمامة مبعثرة في كل مكان وحتى الجدران تحول لونها من الأبيض إلى لون آخر قريب من الصفرة بسبب آثار الدخان وقلة التهوية ,هنا لكزت رشاد وهمست من بين أسناني:
أريد الخروج الآن.
لم يكن أمامه من سبيل سوى محاولة إقناعي بقوله:
اصبر قليلا.
هنا انفرجت أساريره بدخول رجل أسمر, متوسط القامة ,نخر الأسنان, أسود الشعر له طلة غير مريحة على الإطلاق ، فزاد توجسي إن كان هذا بالفعل صديقاً لرشاد ، ومن أين يا ترى تعرّف عليه؟ خاصة أنه بدا كذلك ؛جذب الرجل حقيبة (سمسونايت) أدار رقمها السري , وفتحها أخرج منها قالباً لم أراه من قبل ، قطعه بمشرط غطاه الصدأ ،اجتز منه قطعة طويلة رفيعة ، رماها لرشاد باستهتار ,فتلقاها بحرص وراح يفحصها كتاجر يهودي من العصور الوسطى بدت علامات الرضى على وجهه ، وبلا تردد أخرج عدد من الأوراق المالية ونقدها إياه.
ودون أن يودع صديقه رمقني بنظرة فهمت منها أنه يريد المغادرة ، ركبنا السيارة وما إن أدرت المحرك حتى شعرت بالخلاص ، نظرت لرشاد فوجدته مشغولا بفحص القطعة ولم يلق لي أي اهتمام رحت أخوض بالسيارة وأنا أجاهد للخروج من ذلك الحي الكئيب ، وأخيرا وجدت طريقا للشارع العام ، فتنفست الصعداء ، توقفت في الإشارة ملتفتاً بكامل جسدي لرشاد محاولاً الحديث معه بهدوء:
هل يمكن أن اعرف ماذا تحمل بيدك؟
نظر إلي بخبث وهو يخرج علبة سجائره:
ألا تعرف ما هذا؟!
أجبت بحدة:
لا
قال وهو يفرط تبغ سجائره فوق طبلون السيارة وبجرأة لم أعهدها فيه:
هذا حشيش.
ظهرت على وجهي علامات عدم الفهم فعاد يوضح:
مخدرات هل فهمت ؟ مخدرااااااااااات
هنا كنت قد فقدت أعصابي وهدوئي وصبري وأخلاقي ورحت أصرخ فيه قائلا:
يا سافل يا حقير يا نذل يا جبان أتستغلني وتستغل ثقتي فيك لتجعلني شريكا في جريمة ليس لي فيها ناقة ولا جمل، إذا كنت لا تهتم لمستقبلك فأنا لست كذلك ، تبا لك من صديق.
هنا فتحت الإشارة فانطلقت بأقصى سرعة كأني أخشى أن يرنا أحد وجالت في ذهني أفكاراً كثيرة وتفسيرات أكثر ، فلطالما كان رشاد شارد الذهن عديم التركيز وكنت أظن أن ذلك بسبب كرهه لتخصصه لا أكثر كما أنه كثير المشاكل لا يوجد أحد إلا واشتكى منه لكن منذ متى ورشاد مدمن ؟! فأنا لا أعرفه إلا من فترة قصيرة وكيف لم يلاحظ عليه أهله ذلك ؟! غرقت في خواطري إلى أبعد حد ولم أفق منها إلا على رائحة غريبة اقتحمت أنفي ، التفت بحثا عن المصدر لأجد مصدرها قطعة المخدر التي كان يحرقها رشاد لخلطها بالتبغ كما هو واضح ،أطلقت أفا وعدت أنظر للطريق وبدا لي أن هذه الليلة حالكة حالكة جدا انعطفت يمينا وصبري يكاد ينفد ولكن ما باليد حيلة إذ لابد من إيصاله لمنزله هو والمصيبة التى يحملها بين يديه ، وفجأة بدا الزحام يشتد فتوقعت أنه ربما حادث لكن التنظيم الذي تصف به السيارات يشي بأن ما أمامنا هو .......نقطة تفتيش!!
صرخت:
رشاد شرطة ماذا أفعل؟
رد بكل برود وهو يخبئ ما معه من مخدرات:
لا تقلق كن طبيعيا وحين يسألك عن أورقك أبرزها حالاً.
لم أملك ما يمكن أن أقول فمن الواضح أن الأخ خبير في هذه الأمور وحاولت بقدر الإمكان أن أكون طبيعيا جاء دورنا بطئت من حركة السيارة إلى أن توقفت نزلت شباك النافذة ونظرت للشرطي وأنا أضع يدي على قلبي.
قال بصرامة :
أوراقك.
هززت رأسي أن نعم و مديت يدي لدرج السيارة وأخرجت منها أوراقي وسلمتها إليه.
أخذها واتجه نحو سيارته حيث جهاز الكمبيوتر المحمول وراح يتحقق منها بينما أنا أغلي على نار هادئة وشعرت في تلك اللحظة أني وقعت في مأزق لا أعرف كيف وصلت إليه ، وبدا لي حينها أن لحظات الانتظار طويلة أكثر من اللازم,هنا عاد الشرطي ليعيد لي الأوراق، أنزل رأسه ومد يده أمسكت بطرفها لكني لمحت تعبيراً غريباً على وجهه وكأنه قرأ الخوف في عينيي وسريعا سحب الأوراق وقال بحزم:
أركن السيارة وانزل .
.
كدت أحتج لكن قالها بأسلوب لم يدع مجالا للنقاش فعلت كما أمر وركنت السيارة تبادلت أنا ورشاد النظرات وقبل أن نفهم كان أربعة أفراد شرطة يحيطون بنا من كلا الجهتين طالبين منا ترك السيارة والذهاب معهم , وأنا مازلت لم أستوعب الذي حصل ولماذا أخذ الأوراق بعد أن كاد يسمح لنا بالمرور أسئلة كثيرة احتشدت في ذهني ولم أعرف لها جواب ,بعد دقيقة كنت في غرفة تحقيق منفصلة عن تلك التى وضع فيها رشاد وحينها تذكرت ما قاله رشاد حين وعدني بليلة لن أنساها مدى العمر حقا كنت محقا يا رشاد وبالتأكيد أنك لم تتخيل أن تكون هذه هي نهاية الليلة الساحرة التى كنت تتوق إليها, طال انتظاري إلى أن جاء ضابط كما هو واضح من الرتبة المعلقة على كتفيه وبدأ يدور حولي كما يفعل الأسد بفريسته ظللت جالسا لا أحرك ساكنا إلى أن قال بخشونة:
قف!
وقفت وبدأ بتفتيش صارم لملابسي ومع استمراره في التفتيش بدأت ملامح الإحباط تظهر على وجهه إلى أن وصل لنهاية التفتيش وبدا أنه لم يجد ما كان يبحث عنه فكر للحظة ثم قال بصيغة آمرة:
اخلع ملابسك.
أجبت بهلع:
لا لن أخلعها!!
أزبد وأرعد ولم يضع وقته في الكلام بل أجاب بصفعة على خدي أنقدت بعدها للأمر وفي داخلي مزيج من القهر والذل والغيظ والخوف وقلة الحيلة ,وقفت أمامه عاريا كما خلقت ومع ذلك ألحقني بصفعة ثانية وهو يسأل:
أين المخدرات؟؟!
ثم استطرد:
ولا تكذب فرائحة السيارة تفضحك.
تبا لك : أما كان لك أن تسأل من البداية عوضا عن كل تلك الصفعات والإحراج النفسي والجسدي ( رددتها في سري) ثم قلت له وأنا التقط السروال الداخلي من الأرض :
سيدي سوف أخبرك بكل شئ.
علت وجهه ابتسامة الرضا ،إذ من الواضح أنه ظن أنه يواجه مجرم من النوع الصعب وفي الدقائق التي تلت سردي للحكاية كاملة كان الضابط على علم بكل شيء ، وفي ذات الوقت كانت أعصابي قد احترقت ، فرحت أجهش بالبكاء الحار أمام ذهوله ، كيف لا وقد رققت لحالي وأنا بالملابس الداخلية ، أشي بصديقي الذي لم يترك لي المجال ,تركني أسبح في بكائي وخرج صافقا الباب ورائه ، رحت أكفكف دموعي وأنا أفكر في الجامعة وفي الاختبار ، وعن نهاية الموقف الذي وقعت فيه، نظرت للساعة فوجدت أنها قاربت الثانية عشرة ، سندت رأسي على الحائط وتذكرت أمي وأبي وماذا سيقولا عني ؟ لو عرفا بما حصل أنا الذي لم أدخن سيجارة في حياتي أتورط بقضية مخدرات !!، وليتني مستفيد منها، عادت دموع الندم تسيل على خدي بغزارة ، حاولت أن أتمالك نفسي ، غطيت وجهي بيدي كأني أريد أن أغطي واقعي البائس ورحت أناجي الله بكل ما أوتيت من قوة أن يخرجني من هذه المصيبة ، وبينما أنا غارق في صلواتي انفتح الباب ، ودخل الضابط سار أمامي بتؤدة إلى أن جلس على مكتبه وأشعل سيجارته ببطء وراح ينفث دخانه بهدوء وهو يوجهه للسقف وبعد صمت طال قال:
تفضل أجلس وأجبني بصراحة هل أنت متأكد أنك تقول الحقيقة فلقد تحرينا .... ولم أمنحه فرصة ليكمل حين وقفت وأنا أهتف بقوة:
أقسم بالله أني لم أقل شيئا غير الحقيقة.
نظر إلي بشيء من الإشفاق وهو يقول:
وقع هنا.
وقعت دون أن انظر بما دونه في الورقة وتطلعت إليه منتظرا فعله,تأمل التوقيع ثم نظر إليّ وقال:
اذهب لا أريد أن أرى وجهك هنا ثانية
فتحت الباب بهدوء وخرجت ، اتجهت نحو السيارة وكدت أن انطلق حين سمعت طرقا على الزجاج رفعت رأسي لأفاجأ بالضابط يقف أمام باب السيارة، سألت نفسي رباه : ألم ننتهي من هذه القصة نزلت الزجاج وعلى وجهي علامات القلق ممزوجة بالذعر هنا أعاد لي أوراقي الثبوتية والتي كنت قد نسيتها تماما مددت يدي وأخذتها وارتسمت على وجهي علامات الشكر الجزيل ،هنا مد يده وربت على كتفي و قال:
كن حذرا في المستقبل يا بني.
هززت رأسي وانطلقت وأنا أبكي لكن هذه المرة كانت دموع الفرح هي التى تغمرني وحين وصلت للمنزل كانت الساعة قد قاربت الثانية فجرا وجدت أمي في الصالة جثوت على ركبتي وقبلت يدها وأنا أبكي بينما هي تضمني وتهدئ من روعي ظنا منها أني خائف من الإختبارت,دلفت إلى غرفة نومي واستلقيت على فراشي ونمت كأني لم أنم قط في حياتي استيقظت في الصباح متأخراً، اتجهت إلى االحمام ثم إلى المطبخ مباشرة لأحضر فنجان قهوة ابدأ به يومي الجديد حملته إلى غرفتي بينما أحداث الليلة الماضية تجول في خاطري وتضاربت أسئلة كثيرة في ذهني عن رشاد ومصيره لكني سرعان ما طردته من ذهني حين تذكرت أن مستقبلي كاد يضيع بسببه وحاولت بقدر الإمكان تعويض ما فاتني من وقت وجاء السبت سريعا وحضر الجميع إلى قاعة الاختبار إلا رشاد طبعا ، وراح الكل يتصل بهاتفه النقال ويبحث عنه بلا جدوى وتظاهرت أنا بعدم المعرفة تماما ومر الاختبار وتلاه آخر وآخر ومازال الجميع يتساءل عن سر غياب رشاد.