طائر الفينيق

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

اقتضت مرحلة التشتت و الاغتراب منه أن يتخذ اسماً جديداً  ،غير أنه أصر  على الإبقاء على صورته كما هي فلم يكن بحاجة للتغيير في ملامحه و قسماته.عندما دقت أجراس عودته في ظروف غامضة ووطأ ثرى الوطن بعد غربة ممتدة كان الحوار المقتضب مع المسؤل في المعبر الحدودي:

تفضل ،  ما اسمك ؟

سالم

عفواً ، اسمك الحقيقي الذي عرفت به في الطفولة و الشباب؟لا تحاول ذر الرماد في عيون المحقق !

ليس عندي سوى اسم واحد ووطن واحد.

إنكارك الحقيقة لا يعني  أننا نجهلها ، ثم بدأ  في تعداد أسماء أصدقائه و سرد بعض التفاصيل الدقيقة و الخفايا التي كان يظنها سالم أسراراً.

قطب الأديب العائد حاجبيه حيرة و دهشة و كظم غيظاً و تجرع مرارة المفاجأة و عقدت الصدمة لسانه إلى حين، ثم بدأ في استرجاع السنين العجاف التي قضاها متنقلاً بين العواصم العربية تارة كاتباً و أخرى محرراً لصفحة أدبية يمارس هامش حرية محدود يتحسس من خلاله معالم نفق مظلم كان يرى فيه بداية شعاع يفضح العتمة. كان يمشي بحذر شديد كضرير يرتقي سلماً لولبياً،  فيتأرجح كبندول ساعة حائط قديمة بين الإقدام و الإحجام.

   عندما شوهد قبل أيام على شاشة إحدى الفضائيات كان شاحب الوجه واثق العبارة و هو يتحدث عن تجربته الأدبية و يقرأ بعضاً من أشعاره. لم تزده التجربة إلا إصرارا و صلابة فكان عنيداً و عصياً على التطويع.

لم يبح لأحد من المقربين عن خفايا اسمه .هل كان التغيير محاولة للتخلص من قيود الماضي و ظلاله الباهتة ، أم كان محاولة لانبعاث جديد؟ هل كان ولادة عسيرة تنأى بنفسها عن شوائب الماضي أم كان صورة تشكيلية إبداعية جديدة من تجلياته؟ كان كغجرية راقصة على مسرح عبثي أمام جمهور مشدوه لا يصدق ما يرى. كانت كلماته المتفجرة تغوص في أعماق متعفنة. مر بتجربة مريرة و هو يجاهد للخلاص من مقص الرقيب و حرصه الدائم على تشخيص الأورام. ظل الأديب على قناعاته بأن طائر الفينيق سينهض من رماد النكبة و عبث المهزلة و تناقض الموقف. ظل يحلق كما الفينيق بجناحين- الشعر و النثر – و فشل الجميع في احتواء موهبته أو ترويض عطائه أو لجم اندفاعه لا بالترغيب و لا الترهيب.

  ذات ليلة و قد كانت تهب في فضائه عاصفة هوجاء ، اعترض طريقه شخص ما ، فحاول التخلص منه بلا طائل . دلف إلى زقاق قديم أدى به إلى ما يشبه المتاهة في إحدى الحارات القديمة. كان الآخر يلاحقه بخطى حثيثة فحاول الأديب الاختفاء عند إحدى زوايا بيت عتيق ليراقب ما يجري خلفه إلا أن ما أزعجه أن الشخص الآخر حاول الاختفاء عند شجرة بلوط تنتصب على مبعدة أمتار من المقبرة القديمة. عندئذ أدرك أن لا مناص من المواجهة و أن الهروب إلى الأمام ليس دائماً الحل الأمثل ،  فاقترب منه بهدوء و كانت المفاجأة انه كان يواجه  شخصاً آخر شبيهاً له في القسمات و الملامح و له ذات الشامة على صفحة خده الأيسر....و تساءل : "هل يمكن أن يكون أنا " ؟